"إرتجال 19": متمردون، فنانون، وأكاديميون

حسن الساحلي
السبت   2019/03/23
خيام اللامي ويالدا يونس
تتميز النسخة الـ19 من مهرجان "إرتجال" للموسيقى التجريبية هذا العام (من 29 إلى 31 آذار)، ببرنامج متنوع ومتعدد الأساليب والأنماط الفنية، يعكس طبيعته كمهرجان غير متخصص بنمط واحد كما كان في البداية (الإرتجال الحر)، بل هو مهرجان يستوعب المتمردين وأصحاب التجارب، التي تقع خارج المألوف الموسيقي ضمن النمط الذي تدور في فلكه. 

تمتد العروض هذا العام على ثلاثة أيام، يُخصص اليومان الأولان للفرق متعددة الأعضاء، واليوم الثالث للعروض المنفردة في حدث خاص تحت إسم "الماراتون الموسيقي"، يمتد من الساعة الثالثة عصراً وحتى منتصف الليل (نتحدث عنه في مقال منفصل).

تنتقل العروض كما كل عام، بين عدد من الأمكنة والمؤسسات المختلفة من ناحية الوظيفة والهوية. فيفتتح المهرجان في "مترو المدينة"، مع ثلاثة عروض موسيقية، ثم ينتقل في اليوم الثاني إلى مركز فني يحمل طابعاً أكاديمياً (لكنه غير تقليدي) هو "أشكال ألوان" (عرضان خلال النهار) ثم ينتقل في اليوم نفسه إلى نادٍ للرقص والموسيقى الإلكترونية Club هو "بولروم بلتز" (أربع عروض)، ويختتم في "مركز زقاق" المتخصص في الفنون الأدائية والمجهز بشكل جيد للحفلات الموسيقية والإلكترونية، التي تطغى على عروض اليوم الختامي (عددها 12).

هذا التنوع في الأمكنة يعكس أيضاً طبيعة المهرجان متعدد الإنتماءات والهويات الفنية وهي الخاصية الأكثر وضوحاً ضمن هذه النسخة، حيث نجد فنانين متنوعين بين موسيقيين تجريبيين (في الأنماط الإلكترونية الحديثة كما التقليدية – الآكويستيك)، وفنانين معاصرين (متعددي الممارسات Interdisciplinary ) وأكاديميين وباحثين منخرطين في الإنتاج الفني كما النظري حول عوالم الصوت، والذين يؤدون عروضهم عادة في متاحف ومراكز فنية، ولا نجدهم في أندية الموسيقى المعتادة. يتناول هؤلاء الصوت من زوايا مختلفة، بعضها اركيولوجي، إثنوغرافي، إنثروبولوجي، معماري، والعلاقة المعتادة بين الفاعل الموسيقي والمادة التي يقدمها. فينطلق هؤلاء من النظري إلى العملي، وليس من العملي–الإرتجالي إلى النظري كما هو معتاد بالنسبة إلى الصنف الآخر من الفنانين المشاركين الآتين من خلفيات موسيقية تجريبية. تزداد، بالنسبة إلى هؤلاء، أهمية الأمكنة والأجساد، وتتراجع أدوار الآلات الموسيقية المعتادة، في مقابل حضور متزايد لوسائط الميديا والأصوات المأخوذة من مصادر غير تقليدية.


من الناحية التنظيمية، يتعاون المهرجان هذا العام مع مهرجان "بوردرلاين" في اليونان الذي يمتلك هوية مشابهة، ويقدمان برنامجاً مشتركاً، لا يقتصر التبادل فيه على مستوى الفرق العربية واليونانية، بل يضم الفرق الآتية من حول العالم، ويفترض أن يستمر التعاون خلال السنوات المقبلة.

تمتلك اليونان علاقة ملتبسة مع الموسيقى الشرقية، تشبه علاقة المشهد اللبناني البديل مع هذه الموسيقى، وهذه مسألة تشغل منظمي "إرتجال" أيضاً وتترجم في هذه النسخة، حيث يستكمل المهرجان محاولاته لتعزيز حضور النمط الشرقي ضمن البرنامج (هي مسألة ليست سهلة طبعاً، بما أن المشاريع العربية التي من الممكن وضعها ضمن الخانة التجريبية قليلة). فتُفتتح دورة هذا العام بمشروع ينطلق من التراث الطربي العربي السابق على الثلاثينات، والذي أصبح أثرياً اليوم وتجاوزته الموسيقى العربية (ظهرت بوادر هذا التجاوز مع سيد درويش)، والمشروع من توقيع جون باتشر ويحمل إسم Tarab Cuts أو "قصقصة الطرب" (أداء مارك ساندرز على الإيقاع وباتشر على السكسوفون).

ولدت نواة المشروع عندما دعا الموسيقي اللبناني، طارق عطوي، فنانين من حول العالم، من بينهم باتشر، لتأليف مقطوعات كـ"إستجابة" للموسيقى العربية خلال تلك الحقبة (Visiting Tarab) وأتت النتيجة مشجعة حينها، ما دفع باتشر لتطويرها وتحويلها إلى عرض كامل يعتمد على "تفكيك" تلك التسجيلات واستخدام "خلايا" منها لتحفيز عملية التأليف وخلق نوع من الأخذ والرد معها، لكن من دون أن يبتعد الفنان عن أسلوبه الإرتجالي المعتاد على الساكسوفون.

العرض الشرقي الآخر في البرنامج يأتي في اليوم نفسه (مترو المدينة)، مع عبد قبيسي وعلي الحوت (فرقة التنين) والثنائي الألماني Pablo GiwوJoss Turnbull، وهو وفق قبيسي "مواجهة بين ايقاعات عربيّة وفارسية يمثلها كل من جوس وعلي، وجبهة مقامية عربية - فارسية أمثلها أنا وپايلو" (يقدم "التنين" منفرداً حفلة أخرى بعد أسبوع في أثينا ضمن "بوردرلاين"). يعتمد الثنائي الألماني على نظافة الصوت، أما "التنين" فيأتي من مكان "الصوت الكهربائي فيه غير مضبوط بشكل كامل". يشترك العازفون الأربعة في طابع موسيقي "مُدني" (وفق قبيسي) كما بتجذرهم في الموسيقى الشرقية (جوس يمتلك أصولاً إيرانية وبابلو تتلمذ على أيدي أساتذة إيقاع إيرانيين). تتنوع الآلات بين البزق الكهربائي، الداهولا، والزيل (التنين) والترومبيت والتومباك (جوس وبابلو)، بالإضافة طبعاً للتأثيرات الصوتية المختلفة التي يستعملها الأربعة.
 


تقدم ندى الشاذلي في اليوم الثاني (بولروم بلتز) عرضاً من المفترض أن يعتمد على ألبومها الأخير "أهوار" (مع موريس لوقا وسام شلبي). المختلف في الشاذلي عن الآخرين، هو تركيزها على الصوت الإنساني، والغناء الذي يتراجع حضوره تدريجياً بين الفنانين التجريبيين العرب، الذين يعتمدون غالباً على الآلات الموسيقىة واحتمالات الصوت اللانهائية المصاحبة للآلات الإلكترونية. تأتي الشاذلي من خلفيات متنوعة، بعضها غربي وبعضها الآخر كلاسيكي عربي من العقدين الأولين من القرن الماضي، بالإضافة إلى تأثرها بكاميليا جبران وفنانين معاصرين آخرين. يرافق الشاذلي، عازف الغيتار شريف المصري، الذي يقدم عرضاً منفرداً ضمن ماراتون الموسيقى، والأخوان ماكس وموريتز آغنس (دوبل باص، ودرامز).

أما في ما يخص التبادل اليوناني – اللبناني، فتشارك فرقتان في البرنامج، هما آكتي فيتي، التي تقدم عرضاً بمشاركة رائد ياسين، الفنان المعاصر وأحد مؤسسي المهرجان، وفرقة Trigger Happy التي تعتبر من الأكثر حضوراً ونشاطاً في اليونان على نطاق هذا النمط. تعمل الأخيرة على ما تسميه وسائط ميديا ميتة، يمكن أن تكون راديو أو هاتفاً أو لعبة كهربائية (أو أي شيء تدخل في صناعته دائرة كهربائية) تستعملها كآلات لتوليد الصوت، بموازاة الآلات الإلكترونية المعتادة وآلات الآكويستيك والترنتايبل، والنماذج الصوتية المأخوذة من عالم وسائل الإتصال الواسعة. كما تُعرف عروضها بأنها عالية الطاقة وتشهد تغيرات سريعة، وقطعاً مفاجئاً. أما فرقة Acte Vide، فتُعرف بعملها ضمن ممارسات فنية مختلفة، كالتجهيز والتصميم الصوتي والعمل البصري والسينمائي، كما أنها تمتلك أسلوباً معقداً في العمل مع آلاتها يشبه أسلوب الفنانين اللبنانيين التجريبيين، وتحديداً رائد ياسين على آلة الدوبل باص (من خلال استثمار الجزء البلاستيكي من الآلة)، ومن هنا يأتي التعاون بين الإثنين. وتستعمل الفرقة أيضاً مقاطع شعرية وصوتية تؤديها Danae Stefano، وهي أكاديمية لها مجموعة من الأبحاث والكتب حول الصوت وتاريخ الموسيقى وآلة البيانو التي تستعملها (أي البيانو) بطرق جديدة و"بديلة" عن السائد. 


من الفِرق الأخرى التي نراها في اليومين الأولين أيضاً "رباعي"، التي تعود بعد غياب فترة طويلة، وتضم كريستين عبد النور (ساكسوفون)، مازن كرباج (ترومبيت)، شريف صحناوي (غيتار آكويستيك)، وتتعاون مع أحد أعضاء فرقة The Necks المعروفة طوني باك (درامز وإيقاعات أخرى)، وتوضَع أداءاتها في خانة الإرتجال الحر الذي عرف به المهرجان في بداياته. بالإضافة إلى "رباعي"، يقدم جاد عطوي وجواد نوفل، عرضاً للموسيقى الإلكترونية في "بولروم بلتز". أما العرض الادائي الوحيد في المهرجان، والذي يحمل عنوان A Universe Not Made for Us فهو من ليالدا يونس، التي يرافقها خيام اللامي على العود والإيقاع والأصوات الإلكترونية، ويُعرض في "أشكال ألوان".

(نخصص مقالاً منفصلاً عن اليوم الختامي من المهرجان وهو تحت عنوان "الماراتون")

للإطلاع على البرنامج الكامل: هنا.