هل الشعر جريمة حرب؟!

المدن - ثقافة
الخميس   2019/03/21
أهالي ضحايا حرب البوسنة يتابعون محاكمة كاراديتش وسط صور قتلاهم ومفقوديهم (غيتي)
مع حكم المحكمة الجنائية الدولية، على سفاح البوسنة والزعيم السياسي الصربي السابق رادوفان كاراديتش بتمضية ما تبقى من عمره سجينًا، عقابًا على ارتكاب مذابح بحق مسلمي البوسنة، عاد السؤال الثقافي حول الطاغية الذي يكتب الشعر، أو الشاعر الذي يؤيد الطاغية. وذلك على اعتبار أن كلمة "شعر" في "الوجدان"، تبدو نقيضة للطغيان، أو يزعم الناس أن الشاعر هو الشخص المثالي الذي لا يخطئ. أو ان الطاغية، يتعالى بجبروته عن الكتابة والرسم والفكاهة. لكننا في الواقع، سنجد عشرات الطغاة الذين يستدرجون الشعراء من أجل سماع كلامهم، أو يكتبون ويستشعرون، كأنهم يعيشون حياة ثانية، وأحياناً لا ينفصل قولهم "الشعري" عن فعلهم الإجرامي، أو يتحول كلامهم جريمة.

واذا ما أجرينا استعادة عابرة ومختصرة، لواقع علاقة الطغيان بالشعر في يوم الشعر العالمي (21 اذار) ، نجد "الحصاد" كبيراً، أحياناً يبدو مألوفاً في بلد الاستبداد، وأحياناً هو مدعاة خجل وتفضيح. ففي رواية "الحياة في مكان آخر" لميلان كونديرا، عدّها فرانسوا ريكار "مع دون كيشوت ومدام بوفاري، العمل الأقسى الذي كتب ضدّ الشعر.. يقول كونديرا إن جاروميل شاعر، فكيف للمرء أن يكون شاعراً في ظل نظام ديكتاتوري؟ نظام لا تتوافر فيه حرية الفكر. تنبغي الإشارة إلى أن جاروميل لم ينعم بالحرية أبداً، يخنقه حب أمه التي تتعقبه حيثما ذهب، حتى في فراش العشيقات؛ وتخنقه إيديولوجيات وشعارات الحزب الشيوعي؛ يخنقه ذلك الأب الذي لم تتسنَ له معرفته؛ يخنقه حبه لفتاة لا يجدها جميلة؛ وتخنقه نظرته الضيقة للعالم..". وتقع أحداث الرواية في أثناء الحرب العالمية الثانية وفي الفترة التي أعقبتها، تحكي قصة جاروميل، هذا الصبي الذي كان ضحية زواج مليء بعذابات سيَرت حياته إلى الشعر...

وفي عشرات الشعراء الذين نصادفهم هناك نواة جاروميل، وهي الرواية الأقسى ضد الشعر، وفي الوقت نفسه هي الأدق. لكن في المقابل، هذا لا يعني ان كونديرا كان يرشح زيتاً مقدساً. في دراسة طويلة لجان كوليك بعنوان "رجل، حديقة واسعة: ميلان كونديرا شاباً ستالينياً"، يكتب هذا الباحث في جامعة غلاسكو أنّ "ندم كونديرا على أنه كان شاباً غبياً بما يكفي ليدعم الشيوعية الستالينية، قاده إلى تطوير نظرية عن الإدراك الإنساني المستضعف".

من دون شك، أنه في مرحلة ما بعد الحرب العالمية، كانت الستالينية حاضرة في أفكار عشرات الأسماء الكبيرة، سواء في قصائد بابلو نيرودا، الشاعر الانساني الذي تخلى عن ابنته المعوقة، أو بابلو بيكاسو رسام السلام والذكوري والفج مع النساء.

وإذا عدنا إلى كاراديتش، فقد وقف إلى جانب الشاعر الروسي المثير للجدل، إدوارد ليمونوف، على تلّة "تيربيفيك" المطلة على سراييفو، تحدث كاراديتش وأصوات الرصاص من خلفه عن قصيدة كتبها العام 1971، ويقول فيها: "أسمعُ المصيبة تمشي/ المدينة تحترق/ وفي الدخان فوقها يحضر ضميرنا". القصيدة اسمها "سراييفو"، ويقول إنه كان يتنبأ بالحرب حين كتبها، وأن شعره في تلك الفترة كان ينضح بالعنف والقتل ومفردات الحرب، بعد الانتهاء من القصيدة، يقوم هو وليمونوف بإطلاق النار من أعلى التلّة على بيوت المدنيين في سراييفو.

يصف سلافوي جيجيك، ما سبق بـ"متلازمة الشاعر-المحارب"، وهي أن يمارس طاغيّة القتل وفي الوقت ذاته، يكتب الشعر ويتغنّى به. ويرى أنها ليست حصراً على كاراديتش، بل تحضر لدى سفاحي إفريقيا وأوروبا. في العام 2005 نشر الباحث جاي سوردوكوفسكي، في مجلة "ميتشيغان" للقانون الدوليّ، بحثاً بعنوان "هل الشعر جريمة حرب!"، وفيه يناقش حالة كارداتيش  كـ"شاعر محارب"، ومدى إمكانيّة استخدام شعره كدليل قانونيّ في محكمة الجنايات، لإثبات جرائم "ارتكاب المجازر" و"النية بارتكاب المجازر" و"الضلوع في ارتكاب مجزرة". إذ يقترح أن الشعر يصلح دليلاً أو قرينة، فشروط قبول الدليل في محكمة الجنايات الدوليّة مفتوحة على العديد من الاحتمالات، والمحكمة تقبل كل ما يمكن اعتباره ،"نمطاً متكرراً يعكس انتهاكات للقوانين الإنسانيّة الدوليّة"، وكل "ما يخدم العدالة" و"أي شكلٍ من الكلمات أو الأفعال التي يمكن أن تعبّر عن نمط من الأفعال ذات هدف محدد"، مشيراً إلى أن التعريف القانوني للدليل، فضفاض، ويمكن أن ينطبق ذلك أيضاً على الشريط سابق الذكر والذي يلقي فيه كاراديتش الشعر من أعلى التلة.
 
وتزامنت محاكمة كاراديتش مع مجزرة مسجدي نيوزلندا. وكان سفاح المجزرتين يسمع اغنيتين، إحداهما تعود إلى فيديو موسيقي ودعائي أنتجته مجموعة من 3 جنود في الجيش البوسني الصربي، ويطلق عليها: Serbia Strong. وكان قد أنتج هذه الأغنية عازف بوق وعازف أكورديون وعازف أورغ، تمجيداً لكاراديتش، المدان بارتكاب جرائم حرب. وعقب تداولها بشكلٍ كبير في الإنترنت العام 2006، قوبلت بغضب كبير بسبب اللهجة القومية المتعصبة.

وقبل مدة، نشر موقع هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) نماذج لأبرز الطغاة الذين أجادوا كتابة الشعر عبر التاريخ، حيث تعمق الكاتب، بنيامين رام، في العلاقة بين القسوة وحرارة الشعور. نيرون شارك في مسابقات الشعر والأغاني واللعب على القيثارة، فضلًا عن قيادة العربات الحربية. أشار الباحث الألماني أولريش غوتر، في كتابه "الطغاة يكتبون الشعر"، أنه بمقارنة نيرون مع نظرائه من الشعراء الأباطرة؛ قيصر وأغسطس، كان عهد نيرون "دموياً بشكل لافت"، ورغم افتقاره إلى الطموح العسكري، كانت أعمال نيرون الانتقامية رفيعة المستوى، نقيضًا لانطباعنا المتشكل عن الطاغية من أنه مثير للشفقة، حين توشح زي المسارح التراجيدية، مترنمًا بأغنية "القبض على تروي" بينما احترقت إمبراطوريته وتهاوت على الأرض. وكما اقتبس سوتونيوس عن نيرون تجسيدًا لهذا المشهد: "كانت إمبراطوريته وهي تحترق منظرًا يبعث على البهجة خاصةً مع جمال اتقاد النيران".

كان شغف موسوليني بالشعر حقيقة، رغم غروره، وكانت أبيات الشعر خاصته متطرفة في الشعور، نابضة بالوحدة والاعتزال. ولاحظ ريتشارد بوسورث، كاتب سيرته، أن موسوليني كان يتباهى متعمداً ترك مؤلفات الشعراء البارزين مشرعة على مكتبه في كل مرة تزوره شخصية أجنبية رفيعة. وفي أشعاره الأخيرة ما يعكس خلوته، تلك الأبيات التي هي بعيدة كل البعد من المثالية الزائفة التي لطالما تلبّسها إبان عهد شبابه الاشتراكي.

وفي شبابه، كتب ستالين، الشعر، وتتفرد قصائده الشعرية بالتقليد المذهل، وانعدام السخرية الذاتية، و"المبالغة"، وفقًا للناقد إفغيني دوبرينكو. وعلى نهج ستالين في الكتابة، خطا الزعيم الكوري الشمالي كيم إيل سونغ، فقام بتأليف المسرحيات الثورية والنظريات، وأبرزها "نظرية البذور"، والتي قدمت كيم باعتباره أبًا للاختراع الفني. وفي العام 1992، كتب كيم قصيدة عامة لابنه، جونغ إيل: أيمكن أن يكون عيد ميلاد نجمنا الساطع الخمسون؟/ لقوة قلمه وسيفه نال إعجاب الجميع/ مزج بين الإخلاص والعقل البناء/ والجمع يهتف بالثناء راجًّا السماء والأرض".

كيم، الأب الحاكم للأمة، كان يُطلق عليه أيضًا "شمس الأمة"، على غرار ماو تسي تونغ (زعيم الحزب الشيوعي الصيني) الذي لُقّب بـ"الشمس الحمراء في قلوبنا". ماو كان العقل المدبر لفكرة القلم والسيف، وهما ليسا إلا إسقاطًا على مثالية الحاكم. وفي الفلسفة الصينية أحرف رمزية حبلى بالمعاني (وين وو): "وين" هي القدرة الثقافية، أما "وو" فهي براعة الدفاع عن النفس، وهما مكملتان لبعضهما البعض. المفارقة أن ماو حرص على حصر فلسفته لتلائم التقليد الإمبراطوري، في حين مضى رأسًا في تجاوزها، مشيرًا في العام 1936 في قصيدة له، أن قلة من الأباطرة خلّفوا بعد مضيهم، تركة أدبية، فقال: "في وقتنا هذا إذا رغبت برؤية رجل عظيم، فابصر هذا العصر – يتحدث عن نفسه – وحده".

ومن الطغاة الذين كتبوا الشعر، حتى حلول نهايتهم المريرة، صدام حسين. له قصيدة كتبها في السجن العام 2013 بالعامية تقول: أنت نسيم هادئ/ ينعش روحي فتتجدد من قِبَلك/ فتُزهر وتُبعث من جديد/ مثل غصن باهت يتحول إلى اللون الأخضر".