الأمومة "الطبيعية": دِين جديد

رشا الأطرش
الخميس   2019/03/21
أذكر كيف "تَفلستُ" على أختي بشأن الرضاعة الطبيعية. فهي أخبرتني مراراً، خلال تبادلنا الخبرات باعتبارها أصبحت أمّاً قبلي، أنها لم تحب هذه التجربة، ولم تستطع أن تستمر فيها أكثر من أسبوعين. كان ذلك قبل أن أصبح حاملاً، وخلال حَملي أيضاً. أمطرتُها، آنذاك، بكل النظريات التي أقنعَتني بها قراءاتي ومشاهداتي ومناقلاتي مع الصديقات الأمهات، عن "الرابط" الذي تولّده الرضاعة بين الأم وطفلها، والذي لا يعوضه شيء. عن الإحساس الرائع المنتظَر، والحب المتدفق – حرفياً. وعن شوقي لهذا الأمر الذي سأصرّ على تحقيقه، من أجل ابني أولاً، مَناعته وغذائه، ومن أجلي أنا أيضاً. كنت أحلم بأن أشعر فعلياً بكل ما قرأت عنه. 

عندما أتوا بطفلي إلى غرفتي في المستشفى، نظيفاً وملفوفاً بملاءة زرقاء، وشفتاه الصغيرتان منفرجتان دليلاً على جوعه، كان ذلك لقاؤنا الثاني أنا وهو، بعد لقائنا الأول لحظة ولادته، عندما سمعت صوته وناديته باسمه، ووضعَت الممرضة خدّه على خدّي. وفي المرتين، أجهشت ببكاء حارق، بكاء العواطف الكثيرة المتلاطمة التي تجتاح المرء وتغمره مرة واحدة، فيحتار في تصريفها، ولا يجد سوى الدموع سبيلاً... وحاولتُ إرضاعه. لم أكن أعلم حينها أني أفتتح سلسلة مديدة من المحاولات الفاشلة، والآلام المريرة، والدموع التي صرتُ أذرفها لأسباب مختلفة تماماً لا تقل عاطفيةً وشجناً عن سابقاتها. ألن أتمكن من إرضاع ابني أبداً؟ هذا الألم الذي يكبلني، هذه الجروح الصغيرة الدامية التي تحولني إلى متخاذلة وأنانية، ولا أفكر إلا في طريقة تعفيني من وجعها.. أي أمٍّ تجعلني؟

الكلام والبوح بخصوص الإحساس بالذنب الملازم للأمومة منذ لحظاتها الأولى، بداعٍ ومن غير داعٍ، ما عاد مسكوتاً عنه ومُنكَراً كما كان قبل عقود، لا سيما في الثقافة العربية. صديقات وكاتبات وصحافيات وفنانات، وحتى ربات بيوت وأمهات متفرغات، صرن يتحدثن عن الموضوع بأريحية متزايدة، أريحية النقد، أو مواجهة هذا الإحساس باعتباره ليس دائماً محقاً ومنبّهاً إلى تقصير حقيقي، بل لعله في أحيان كثيرة صنيعة المجتمع والأهل والأساطير المكرسة والقوالب المتبنّاة إعلامياً على إطلاقها. ومع ذلك، فإن الكلام ما زال غير مُستوفى، وما زالت المُطلَقات أقوى، إلا لمَن كانت بها خبيرة. وربما تمر سنوات قبل أم يمسي الكلام عن التجارب الموازية بقوة المتن، أو ما أصبح متناً مؤخراً، خصوصاً في ما يتعلق بالأشهر الأولى من الأمومة الأولى.

لا شك في أن الرضاعة الطبيعية، كبداية علاقة عضوية بين الأم ووليدها، منذ أن يصبحا شخصين منفصلين لا حبل سرّة يربطهما، هي أفضل ما يمكن أن يصبو إليه الإثنان، صحياً وعاطفياً. حملات التثقيف الصحي، في وسائل الإعلام والكتيبات المنتشرة في عيادات الأطباء، محقة وأصيلة، وكذلك روايات الأمهات المرضعات. لكنها ليست شاملة ولا كاملة. بل تتزايد تمييزاً ضد اللا-مرضعات، مغذية الشعور الأمومي بالذنب الذي لا تنقصه التغذية، وهو الذي يتضخم على عواهنه، بطبيعة الأمومة كأمومة، وجنون هرمونات ما بعد الولادة من جهة، وبتأثير من محيط الأم الجديدة من جهة ثانية. وما يغيّب الصوت الآخر، لا بدّ من تحدّيه. أصبحت هذه قناعتي اليوم.

نشهد منذ بضعة عقود، نوعاً من الرِّدة "السَّلَفية" في شؤون الصحة وأسلوب الحياة المعافاة. وليس عبثاً أن دورة الحياة الرأسمالية/الاستهلاكية، المهيمنة على العالم شئنا أم أبينا، تحاول استيعاب هذه الرِّدة وابتلاعها في بطنها، لامتلاكها وإعادة انتاجها على طريقتها، وبما يفيدها. هذا دليل قوي على اتساع رقعة مريدي "العودة لزيارة الأصل" أو "الزمن الجميل"، في المأكل والملبس والأمومة والتجارة المُنصفة، كما في الفن والأزياء وحتى السياسة. والتناقض البنيوي الذي يحمله هذا الاستيعاب، ينطبق أيضاً على التناقض بين ما يفترض أن المرأة العصرية حققته من امتلاك لجسدها وقراراتها بشأنه وعبره، وبين ما بات يلفّ ذلك الاحتكاك العضوي/النفسي الأول، وهو الأقوى والأعمق والأعنف، بين الأم ورضيعها.

أذكُرُ أني، وخلال أسبوع كامل بعد ولادة طفلي، وإلى جانب كل ما تجرّعته، في جسمي وذهني ونفسي، من تعب النوم المتقطع، ووهن التعافي من عملية الولادة نفسها، وبوادر اكتئاب ما بعد الولادة (الذي لا أحد يحضّرنا له بالقدر الكافي، أقلّه ليس بما يوازي الضخّ الدعائي الهائل لصالح الرضاعة الطبيعية).. كنتُ، طوال هذا الأسبوع، مشاعاً مباحاً. الممرضات في المستشفى، الأهل، الأصدقاء، المربية التي رافقتني ثلاثة أيام في البيت لتعوّض غياباً اضطرت له أمي وحماتي، والاختصاصية صديقة أختي التي تبرّعت -بمحبّة مشكورة- لزيارتي في البيت، وكان جمهورها عائلتي بأكملها... الكل يلمسني بـ"مَونة" المساعدة في تعليم الرضاعة. جسدي هلامي، غير موجود، بلا حُرمة ولا قدسية، وكذلك آلامي. مصلحة الطفل حديث الولادة هي الغاية الأسمى التي تبرر تذليل الحواجز البديهية بين الأجساد.

ولا أنكر أني ساهمتُ في ذلك. فأنا أيضاً وضعت وليدي أولاً، وباسمه أنكرت كل ما كنت أشعر به من انتهاك. باسم العافية والطبيعي، رحتُ أكبُتُ وأقمع رد فعلي.. الطبيعي أيضاً. وتحت شعار "طفلي أولاً"، حمّلتُ طفلي مسؤولية لا ضِلع له فيها، وجوّعته وأبكيته معي رغماً عني وعنه، متجاهلة أن هناك دائماً خياراً آخر اسمه القنينة، وهو ليس خطيئة! فلا خطأ أو صح هنا، بل خيارات وحالات تختلف باختلاف الأمهات والأطفال. في الماضي، كانت المرضعة البديلة، واليوم توفر لنا التكنولوجيا والصناعة الحديثة حلولاً شتى ليست بدورها قليلة العافية.

حتى أنا، لم أكن أعبأ بدموعي، وبشفَتي السفلى التي درجتُ على عضّها بقسوة، كلما حاولت إرضاع طفلي. حتى أنا، كَنَستُ تحت سجادة وعيي، اشمئزازي من تلك المضخة الرهيبة التي اشتريتها لسحب الحليب، بعدما قيل لي إن الحليب يدرّ الحليب، والسحب الميكانيكي سيساعد في استكمال الرضاعة طبيعياً لاحقاً، إن صبرتُ قليلاً. لا بد أن أحاول كل شيء، قلت لنفسي. أكياس المياه الساخنة لمداواة التحجّر المبرح. المرهم للتقرحات، مع التنبّه لغسله قبل الإرضاع كي لا يختلط بالحليب، وبالتالي فقدان الراحة الجزئية التي كان يمدّني بها... وتلك الآلة المقرفة التي حاولت أن أصادقها بالنكتة والسخرية علّني أكافح الصورة التي تخلقها عني في رأسي. والمربية، بكل حسن نيّة، تشجعني: "يلا اسحبيلك شوية حليب ما دامك قاعدة". 

الآلة الرأسمالية تحالفت مع موضة "الطبيعي". مضخات الحليب، و"الضمادات" التي تمنع تسربه إلى الثياب في غير أوقات الرضاعة، خلطات الزهورات والأعشاب (لن أنسى طعمها البائس) المولّفة خصيصاً لدرّ الحليب... كلها متوافرة بكثرة في الصيدليات والمتاجر المتخصصة في شؤون وشجون الأم والطفل، وتستبدل ما كان يُصنّع منزلياً. بضائع تجدها أمهات كثيرات مفيدة، وهذا مفرح لأنهن، مثلاً، ما عدن مضطرات لملازمة الطفل لإرضاعه. الأم العاملة تستطيع ضخ حليبها ووضعه في البراد حين تترك طفلها مع أمها أو جليسة الأطفال. والمنتجات الأخرى، كالكثير مما يُخترع لتسهيل حياة الأم والرضيع، عملية وما عادت مُكلفة بالضرورة. لكن بينها ما تراه كثيرات أدوات تعذيب وانتهاك.. وهذا ما لا يتحدث عنه أحد. بل يُدار الحديث عنه إلى وجهة التأنيب: "لا ترضعين ابنك؟ لماذا؟؟!!". وهكذا، رحت أبرر أمومتي المنقوصة لكل مَن هبّ ودبّ، وللنساء الشابات أكثر من الأكبر سناً.

وكأنه دِينٌ جديد هذا "الطبيعي". وهو نفسه الذي بات يطوّب الولادة الطبيعية كأنها أسمى وأقرب للأمومة المباركة من القيصرية. وتذهب تبشيراته أحياناً إلى "احتضان" تجربة الولادة كاملة بلا حقنة البنج الموضعي. وكثيرة القصص التي سمعتها عن أمهات المرة الأولى، اللواتي دخلن المستشفى رافضات البنج، وكن قد أعددن أنفسهن طوال أشهر الحمل لـ"عَيش" المخاض و"الاغتناء" به، ثم غيّرن رأيهن في الداخل.. أو ندمن لأنهن لم يغيّرن رأيهن.

هذا في القرن الحادي والعشرين، بعد الثورة الصناعية، وثورات النساء، وفورات العِلم والاختراع، والإنجاز الطبي المتمحور حول فكرة بديهية وإنسانية بحتة، مفادها أن الألم ليس قَدَراً ولا طُهراً، ولا فضيلة فيه.. إلا في روايات الأديان.

المفارقة، في نهاية أسبوع استنزافي، أن القدر الأوفى من الدعم والتفهم لتفكيري في وَقف هذه المعاناة الطبيعية، جاء من رجُلَين، إضافة إلى أختي المُجرِّبة بالطبع. زوجي الذي شاركني دموعي وقال لي بنبرة حب ونبل وحضارية لن أنساها ما حييت: "لا تصغي لأحد، هذا قرارك أنت، وأنا معك في أي وجهة تختارينها"... وطبيبي النسائي الذي يكبرني بجيلَين على الأقل، وما إن هاتفته لأخبره بقراري التوقف عن الرضاعة، حتى بادرني بصوت لا أثر فيه لأي حُكم، ومن دون أسئلة أو محاولة لثنيي عن خياري: "أفهمك، هذا اسم الدواء لقطع الحليب".

وتناولتُ الحبة السحرية، وارتحت خلال يومين، وصرتُ أعدّ حليب الأطفال لابني، وأعرف بالضبط مواعيد أكله ونومه (ونومي)، وأعرف بالضبط كمية الحليب التي يشربها، ومتى عليّ زيادتها لمواكبة نموه الذي سار على أحسن ما يرام. لم يجعلني قراري أمّاً أفضل، لكنه أيضاً لم ينتقص مني، والرابط مع ابني جدد نفسه بشكل مختلف، يخصني ويخصه وحدنا، بل أنقذ علاقتنا من تشويش كثير. قراري جعلني أنا، الأمّ التي هي أنا، بظروفي ووعيي وخياراتي.. وهذا ما لا يجب أن يضطر أحد للاعتذار عنه.