غوبيكلي تيبي.. أقدم معبد في التاريخ

محمود الزيباوي
الأحد   2019/03/17
افتتاح الموقع
في التاسع من شهر آذار/مارس الحالي، وفي حضور الرئيس رجب طيب أردوغان، افتتحت الدولة التركية رسميا موقعا أثريا يضم بحسب أهل الاختصاص "أقدم معبد في العالم". يُعرف هذا الموقع باسم "غوبيكلي تيبي"، ويقع على أعلى قمة لسلسلة مرتفعات في جنوب شرق مدينة شانلي أورفا، عند ذروة "الهلال الخصيب".


يعرف العامة مدينة شانلي اورفا باسمها المبسّط، أورفا، وهي في كتبنا التراثية الرها التي اشتهرت في الحقبة الهللينستية باسم أديسا. ذكرها ياقوت الحموي في "معجم البلدان"، وقال إنها "مدينة بالجزيرة بين الموصل والشام"، "اسمها بالرومية أذاسا"، بناها الملك سلوقس في السنة السادسة من موت الإسكندر. عرفت المدينة مجدها في القرون الميلادية الأولى، وارتبط اسمها في أنحاء العالم المسيحي برواية تحكي عن تبادل الرسائل بين ملكها الوثني أبجر الأسود وبين يسوع المسيح في فلسطين. اعتنق الأبجر المسيحية، فكان أول الملوك المسيحيين، وكانت مملكته اول مملكة تقبل المسيحية. تحولّت الرها سريعاً إلى مركز للكنيسة السريانية، ونشأت فيها مدرسة كبيرة شهدت مولد الأدب السرياني الكلاسيكي، واستقطبت الحجاج الذين قصدوها من الشرق والغرب، ومنهم من كتب في وصفها صفحات نقلت أحوالها وحفظت أخبارها.

دخل المسلمون أديسا في القرن السابع، واستعادت المدينة اسمها الآرامي اورهاي الذي تحوّل إلى الرها، وهي بتعريف الحميري في "الروض المعطار في خبر الأقطار": "مدينة من أرض الجزيرة متصلة بحران، وإليها ينسب الورق الجيد من ورق المصاحف، وهي مدينة ذات عيون كثيرة عجيبة تجري منها الأنهار، وبينها وبين حران ستة فراسخ. والرها مدينة رومية عليها سور حجارة، تدخل منها أنهار وتخرج عنها، وهي سهلية جبلية كثيرة البساتين والخيرات، مسندة إلى جبل مشرفة على بساط من الأرض ممتد إلى حران، ولها أربعة أبواب، منها في الجنوب باب حران، وفي الشرق الباب الكبير، وعلى هذا الباب حصن منيع جداً تحصن فيه المسلمون بعد أخذ الروم للرها ستة أشهر ولم ينزلوا إلا على اختيارهم، وفي الشمال باب سبع، وفي الغرب باب الماء. وبساتينها في الشرق منها ويشق بعضها نهر يسمى بالسكيرات. وتخرج من الرها عين تسمى بعين مياس، وليس في جميع بلاد الجزيرة أحسن منها منتزهات ولا أكثر منها فواكه، وعنابها على قدر التفاح، وقد ذكر أنه لم يوجد بناء خشب أحسن من بناء كنيستها لأنها مبنية بخشب العناب".

في القرون الوسطى، تصارع العرب مع الروم على حكم الرها، ثم تصارعوا عليها مع الفرنجة الذين ملكوها عاصمة لكونتية حملت اسمها حتى منتصف القرن الثاني عشر. بعد رحيل الفرنجة، عانت الرها من الصراعات المستديمة، وتعاقب على حكمها أمراء وولاة إلى أن سيطر عليها العثمانيون في عام 1637، وعُرفت منذ ذلك الحين باسم أورفا. كما في سالف عهدها، جمع هذا الإقليم أطيافا من الأجناس، وكانت في قلب ما يُعرف بـ"الأقاليم السورية الشمالية" التي ضمّت أضنا، طرسوس، مرسين، ماردين، ديار بكر، مرعش وعنتاب، وظلت غالبية هذه المناطق جزءا من ولاية حلب ومتصرفية الزور حتى نهاية الدولة العثمانية. نجحت الدولة التركية الفتية في ضم الأقاليم السورية الشمالية إليها بموجب "اتفاق انقرة" عام 1921، وباتت قيليقية والجزيرة الفراتية العليا جزءا لا يتجزأ من أراضيها. تحول اسم اورفا إلى شانلي أورفا، أي اورفا المجيدة، وذلك بعد توقيع "معاهدة لوزان" في عام 1923.

على بعد عشرة كيلومترات من أورفا المجيدة، كشف فريق جامعي من اسطنبول بمشاركة وفد أميركي من علماء الإنسانيات في جامعة شيكاغو عن موقع أثري في قمة موقع كوبيكلي تيبي الجبلي في عام 1963. قبل هذا الكشف، ظل هذا منسيا على مدى آلاف السنين، واستخدمه فلاحو المنطقة لأجيال عديدة في الزراعة، وسعى بعضهم إلى نزع الحجارة الأثرية منه لتنظيف الحقول، مما أدى إلى إتلاف بعض اللقى الأثرية، ومنها رأس لنصب حجري تم تحطيمه جزئياً.

لم تتضح أهمية هذا الموقع الاستثنائية في تلك الفترة، وصُنّف كمدفن قديم، واكتفى عالم الآثار الأميركي بيتر بينيديكت بتحديد تاريخه كموقع من العصر الحجري.

عُرف موقع كوبيكلي من طريق التقارير العلمية التمهيدية، واسترعى انتباه العالم الألماني المختص بدراسة مواقع ما قبل التاريخ، كلاوس شميدت، فقصده في 1994، وأدرك للتو أنه يقف وسط موقع عظيم الشأن. منذ ذلك العهد، قام معهد الآثار الألماني بالتعاون مع فريق متحف أورفا بسلسلة من عمليات الحفر والتنقيب في هذا الموقع تحت إشراف كلاوس شميدت، وتلاحقت الأبحاث العلمية حوله، وتبعتها كتب عدة. أصيب كلاوس شميدت بذبحة قلبية في 2014، ورحل عن هذا العالم قبل ان تكرّس منظمة الأونيسكو اكتشافه كموقع من مواقع التراث العالمي في 2018. إثر هذا التكريس، عملت الحكومة التركية على العناية بالموقع، وجعلت منه موقعا أثريا سياحيا افتتح منذ أيام أمام الجمهور العريض.

اختصر كلاوس شميدت ابحاثه بعبارة مثيرة تقول: "المعبد أوّلا، ثمّ المدينة". وتعني هذه العبارة ان بناء المعبد سبق نشوء المدن، وليس العكس. أظهرت عمليات التنقيب والدراسات المتلاحقة ان الموقع يعود إلى العصر الحجري الأوسط، واتضحت هويته الدينية، ولم تظهر أي آثار تشير إلى السكن والاستيطان فيه. يجمع المؤرخون على القول بأن الثورة الزراعية بدأت حوالى تسعة آلاف سنة قبل الميلاد، مع ظهور معالم الاستقرار والتدجين الأولى، وتشهد منشآت كوبيكلي على وجود منشآت معمارية دينية سابقة لهذا التاريخ، مما يعني ان بناء المعابد سبق ولادة القرى والمدن. عملت في بناء هذا المنشآت فرق من العمال قطّعت أحجار النصب الكبيرة ونقلتها إلى محيط الموقع، ويشهد طابعها الهندسي أنها لا تصلح للإقامة والسكن، بل لإقامة الشعائر والطقوس.

في الخلاصة، قبل أن تستقرّ جماعات الفلاحين الأولى وتنشئ أبنية معمارية، عمدت جماعات من العمّال الرّحل على انشاء أبنية دينية في أعالي هذه القمة المطلة على سهول الجزيرة الفراتية التي شهدت بداية الثورة الزراعية، ويشير كلاوس شميدت إلى هذا المسار بقوله: "بُني المعبد أولا، ثمّ بنيت المدينة. وتحتاج هذه الفرضيّة الثورية لتأكيدها إلى عمليات تنقيب أخرى في المستقبل". تعاونت مجموعات الرحّل في تلك المنطقة لحماية المساحات التي تنمو فيها الحبوب من قطعان الحيوانات البرية، وأقامت ما يُشبه التنظيم الاجتماعي حول موقع المعبد المقدس الذي أنشأته. من هنا، يتّضح ان الزراعة لم تنشأ في البساتين الصغيرة حول البيوت، بل في مساحات أقامت فيها مجموعات منظّمة من الرحّل، قبل بداية بناء القرى. مع بداية الألف الثامن قبل الميلاد، بدأ عصر الزراعة والتدجين، ومعه دخلت الحياة في دورة جديدة. فقد مزار كوبيكلي مكانته، وعمل سكان المنطقة على ردمه منذ الألف الثامن بمئات الأمتار المكعّبة من التراب، ولا ندري ما الذي دفع هؤلاء السكان إلى القيام بهذا الردم.

دخلت كوبيكلي التاريخ المعاصر بوصفها "اقدم معبد في التاريخ"، وباتت مدخلا لدراسة نشوء العالم الديني، في زمن سبق التدوين وبداية التاريخ. من هذا الموقع، خرجت مجموعة كبيرة من الأنصاب الحجرية مثبتة بشكل دائري، تشكّل أسسا لمنشآت معمارية بدائية. توصل بين هذه الأنصاب جدران من الحجارة المرصوفة تحتضن في الوسط نصبين مركزيين يتميزان بحجمهما الكبير. يأخذ هذان النصبان شكل صليب دون رأس يماثل شكل حرف التاء اللاتيني، وتحمل أشكالا حيوانية متعددة، منها الأفعى والأسد والثور والغزال والخنزير والثعلب، إضافة إلى طائفة من الطيور والزواحف المجرّدة. كذلك، يحضر الإنسان برأسه وجسده في مجموعة من أنصاب يغلب عليها الطابع المختزل، وتظهر اليدان المتدليتان على الجانبين في عدد منها.

احتار المتخصصون في قراءة هذه المعالم والكشف عن دلالاتها، وتعددت التأويلات في تحديد معانيها. ربط كلاوس شميدت بين هذه الأنصاب وبين ميراث بلاد الرافدين، واستعاد الروايات السومرية التي تقول بأن بداية الزراعة والتدجين انطلقت من التل المقدس المعروف باسم الدوكو، ورأى ان هذه الأسطورة قد تحوي عناصر من الماضي السحيق تعود إلى العصر الحجري الحديث. بحسب هذه الأسطورة، من بيت الآلهة الدوكو، هبطت إلهة الحبوب أشنان، وإلهة الماشية والحظائر لاحار، وهما شقيقتان خلقهما الإلهان إنليل وإنكي.

"أنشأ إنليل وإنكي للآلهة لاحار الحظيرة/ وجعلا لها النباتات/ والاعشاب الوفيرة/ أما أشنان فقد أقاما لها بيتاً/ وقدّما المحراث والنير هدية لها/ لاحار واقفة في حظيرتها/ راعية تزيد نتاج حظيرتها هي/ أشنان واقفة بين المحاصيل/ عذراء لطيفة وجميلة هي/ الرزق الذي يأتي من السماء/ لاحار وأشنان كانتا من وراءه/ الى المجتمع جلبتا رزقاً/ وإلى البلاد جلبتا نسمة الحياة".