حفلة في عزلة ريتسوس.. ترجمة محمد مظلوم

المدن - ثقافة
السبت   2019/03/16
صدر حديثاً عن منشورات الجمل "يوميات المنفى" و"ظلال الطيور" ليانيس ريتسوس، ترجمة الشاعر العراقي محمد مظلوم وتقديمه، هنا مقدمة الكتاب الثاني مع بعض قصائده، ننشرها بالاتفاق مع الناشر.

إشارات

العمل الشعري الأول المتكوِّن من 82 قصيدة قصيرة جداً، سمَّاه ريتسوس «ثوانٍ» ونشر في العام 1991، بعد رحيله بقليل، ضمن مجلَّد بعنوان «في وقت متأخِّرٍ، متأخِّرٍ جدَّاً، من الليل» عن (منشورات كيدروس/ أثينا) واعتمدتُ الترجمة الإنكليزية للكاتبة الأسترالية ذات الأصول اليونانية «أنتيغون كيفالا» عام 2005.

ولا بدَّ أن أنوِّه إلى أنني في الوقت الذي أنهيت ترجمتها صدر المجلد الأول لأعمال ريتسوس[1] بترجمة الكاتب جمال حيدر وهي ترجمة مباشرة عن اليونانية. ويتضمَّن الديوان الأخير لريتسوس ولم يتسنَّ لي الاطلاع عليه حتى فراغي من ترجمة القصائد، إلا أنني تحققتُ من الأمر، بعد مراسلة شخصية مع المترجم. وهنا أتقدِّم بشكري له على ملاحظاته وخاصة تلك المتعلقة باختلاف بعض الضمائر بين اليونانية والإنكليزية، خاصة وأنه أقام فترة في اليونان وتعرَّف على ريتسوس شخصياً، وفي كل الأحوال فإنني أتحمَّلُ وحدي مسؤولية أيِّ خطأ قد يردُ في طبيعة اجتهادي الشخصي لأيَّة عبارة في هذه الترجمة.

وبما أنَّ مختارات عدَّة من أعمال ريتسوس الشعرية ترجمت للعربية، وأغلبها عن مختارات معينة صدرت بالإنكليزية، فقد حاولُت في هذه المختارات أن أضيء جانباً آخر من تجربته الشعرية تجسِّدُ وحدة شكلية كلية في تجربته بالقصيدة القصيرة جداً وهي تجربة عميقة ومؤثرة، وأنَّ أختار الأعمال غير المترجمة سابقاَ للعربية. فـ«ظلال الطيور» وهي مجموعة من 64 قصيدة قصيرة صدرت ترجمتها الإنكليزية الأولى عام 2009 ولم تترجمْ سابقاً حسب علمي، وكذلك الأمر مع مجموعة قصائد «الطين» وبقيَّة المختارات الملحقة في هذا الكتاب. وتعتمد هذه المختارات على الترجمات الانكليزية لـ«سكوت كنج» و«أدموند كيلي» وتمثل سطور «وتريَّات إحادية» المتكونة من 336 وترية-قصيدة في سطر واحد-نموذجاً أكثر إفصاحاً عن وصول الإيجاز إلى أقصى حالات التكثيف والتقطير سواء في الكلمات أو المعاني أو الصور. وهي تترجم للمرة الأولى كاملة للعربية اعتماداً على ترجمتها الإنكليزية لـ«بول ميرتشنت»[2] بيد إنِّي سأقصَّر قراءتي التمهيدية على عمله الأخير (ثوانٍ) لخصوصية تجربته التي تتعلَّقُ بموضوع الموت والشيخوخة. مع أن كثيراً من التلميحات النقدية تنطبق إلى حدّ بعيد على مجمل هذه المختارات.

شِعْر الاحتضار

 

حفلة في عزلة الشاعر لتوديع العالم

 

أوَّل ما يُلفتُ النظر في هذه القصائد القصيرة جدَّاً لريتسوس، عددُها المكوَّن من «82» وهو نفسهُ عدد السنوات التي عاشها هذا الشاعر (ولد في 1 /5/ 1909 وتوفي في 11/11/1991) أي قبل أن يمضي إلى عامه الـ 82، أو إلى الثانية 82 من الأبدية التي ظلَّتْ مفتوحة على التاريخ والتأويل، تماماً كما تركَ تنقيح ديوانه الأخير لينشر بعد وفاته.

ظاهرياً يبدو وكأنّ المصادفات الغريبة تدخَّلتْ في كتابة هذه المفارقة السوداء بين تاريخ موت الشاعر والشكل الأخير لقصيدته. لكن متى كان حدسُ الشاعر لموته من تلك المصادفات الغريبة؟ ذلك أنه شعور كيانيٌّ مقيمٌ معه ويستشعر به ويحاوره في كلَّ لحظة. ومن هنا جاء حدسُ القصيدة ليؤكِّدَ أن إحساس الشاعر أقوى من أية مصادفات.


منذ المقطع الأول يعلنُ ريتسوس بصراحة مريرة أنه يشرع بكتابة قصيدة احتضاره، وهكذا بدتْ معظم أجواء القصائد بل الديوان عموماً، كأنَّها حفلةٌ توديع لكلِّ ما حوله، ومراجعة متأخرة للصفقة التي تبدو خاسرة مع الحياة، فمنذ استهلال القصيدة لا نقرأ افتتاحاً استهلالياً تقليدياً، بل إنه أقرب إلى خاتمة مبكِّرة، إذ يصوِّر مشهد رجل يعبر الشارع في الظلمة وفي يده زهرة أقحوان، وهي من الزهور التي توضع عادة على قبور الموتى، فيتيقَّنَ من فنائه، ويفهم أنه يشرع في مهمته الأخيرة، ولا بدَّ له أن يتعهَّد بتلقي تلك الزهور التي ستأتي لوداعه.

لكنَّه وهو يكتب تفاصيل خاتمته، لم يعد بمقدوره توديع كلّ ما حوله من أشياء أحبَّها وكتبَ عنها طيلةَ تجربته الشعرية: الطيور، والأزهار، والتماثيل، والغيوم، والصخور، والمرايا...، فقد أصبح شيخاً مُنهكاً غير قادر حتَّى على رفعَ يده مُلوِّحاً لوداع هذه الأشياء والكائنات التي ملأتْ حياته وقصائده.

لكن العجوز المُتعب الذي لم يعد بإمكانه أن يتحرَّك برشاقة الشباب وسرعته، ويسعى إلى الاتكاء على كتف وردة أو حتى على ظلِّها! ما زال بإمكانه أن يرى بسرعة خاطفة كما البرق، أو الصقر الذي لا يكفُّ عن التحديق حتى وهو يحتضر. لكن أيّ نوع من الرؤية/ الرؤيا؟ إنها رؤية الأعمى البصير، تماماً كأسلافه في الأساطير اليونانية القديمة هوميروس، وتريسياس وسواهما. إنه شاعر يمجِّد العمى الوجودي، العمى المقدَّس الذي يتيح له رؤية الحقيقة وكتابتها، وربما من هنا سمَّى أحد دواوينه «الكتاب المقدَّس للأعمى» هذا الرائي الأعمى استطاع أن يحيل كلَّ مشهد أمامه إلى عالم متحرِّك، بل حيويّ الحركة وإن بدا ثابتاً، كتعويض عن ثِقَل الحركة الجسدية، إنه لا يستسلم، وهو ما يكرِّره في أكثر من مكان في هذه الكتاب، ولا ينسى إنه «شاعر مقاومة ومنفى ومعسكرات اعتقال» بعيداً عما يجري في إيامنا هذه من اختزال لهذه التوصيفات بتعبيرات وفهم مُنبتَّين عن معناها الوجودي والإنساني العميق. الأمر مختلف تماماً مع هذا الشاعر الذي واجه الخراب المبكر، بموت والدته وشقيقته في سنٍّ مبكرة، وجنون والده، ثم أصابته هو نفسه بالسلِّ، لكنه تمكَّنَ من التغلُّب عليه وظلَّ يدخِّن ويكتب الشعر حتى الموت!

وهكذا صار يستمدَّ إصراره، رغمَ تيقُّنهِ من لا جدواه، من تفتُّح الأزهار سواء المنزلية أو البرية، وطيران الفراشات، وضحكات الأطفال من حوله، ذلك إن كلَّ احتضار يقابله تبرعُمٌ، بل أنَّ الموت نفسه نوع من العودة إلى عالم الخلود والانبعاث. أو كما يوجز هذه الفكرة في قصيدة قديمة له في ديوان «زَمنُ الحَجَر» الذي كتبه في الاعتقال:

«الموتُ،

ليسَ أكثرَ مِنْ ورقةٍ

تسقطُ

لتغذِّي ورقةً أخرى

تنمو»

لكنَّهُ يرى بالمقابل أن فناءَه الشخصيّ خلاصة جديدة لفناء يمتدّ إلى عصور سحيقة، فـ«إيثاكا» ضائعة، بل تحترق من دخان سيجارته هو! و«بينيلوبي» تموت وأمامها مِنوالُها الذي لم يكتمل نسيجه في أية لحظة من الزمن. هكذا يندمجُ الموت الشخصيّ للشاعر بموت أساطير وحضارات وأمم.


لا يشعر ريتسوس إن الموت اقترب منه كثيراً فحسب، فشِعْرُ الاحتضار، هو تأكيد بأن الموت قد حضر فعلاً، ولذلك تبدو أغلب هذه المقاطع وكأنها كتابة من تحت القبر، من عالم آخر، ممزوجٍ بعالم قديم، إنها سردٌ إيمائي لذكريات ميِّت، وكلّ أنسان حيٍّ هو شخصٌ ميتٌ مع وقف التنفيذ. وإذ ما من موتى أخبرونا عن عالمهم أو كتبوا لنا شعراً من هناك، فإنَّ مثل هذه الإشعار تمنح، على الأقل، صورةً تقريبية تجسِّد لحظات المواجهة النهائيَّة لذلك العالم، تلك البرهة المكانية «البرزخية» أي المسافة المعقَّدة والغامضة بين الحياة والموت.

تلخِّصُ ثواني ريتسوس عالمَ العزلة الأخير، العزلة التأمُّلية الكُبرى ما قبل دخول الأبدية. إنها المطهِّر النهائي و«الاستغناء السخيّ» عن كلِّ ما يُعيق المرور السهل والمريح نحو عالم يبقى مُخيفاً وسرِّياً مهما تحصنَّا ضدَّه، ومهما موَّهنا وخاتلنا بقصد تفاديه.

هكذا يحاور في عزلته الأشياء سريعة الزوال: الشموع والسجائر، والكائنات ذات الإعمار الوجيزة. الأزهار والطيور. ويردفها بل يَشحنُها بالأفعال اللغوية التي تدلُّ على المغادرة والانصراف، والرحيل، والسفر، والهجرة.... الخ.

لكنَّه وسط هذا الاعتكاف الصوفي والانطواء على أعماقه الشخصية لا يتنكَّر تماماً للقضايا الإنسانية التي انحاز لها طويلاً ودفع ثمناً باهظاً من أجلها فهو يكتب، كذلك، عن القحط الروحي سواء بمعناه الرمزي أو من خلال التعبير عن الجوع بمعناه المباشر في العالم، من خلال صور عديدة، تتجلى في استعادته لصورة الفلاحين البؤساء الذين يأكلون البطاطا في لوحة «فان كوخ» أو العالم الذي يمكن إعادة فتحه بباقة برسيم صغيرة، أو زهرة عباد الشمس التي تنحني لتنظر إلى الأرض القاحلة بدل التوجُّه نحو الشمس لتستمدَّ حياتها، أو عن الحياة التي نتركها بلا أحلام ولا خبز... إلخ.

هذه القصائد/ الثواني، التي تأخذُ شكلَ اليوميات أو المذكرات الشخصية تأتي في سياق تحول تجربته وتنوعها وصولاً إلى كتابة القصيدة المختزلة كما في ( (Tristichs 3 X 111 وهي ثلاثيات تتكون من ثلاثة أسطر، والتي ترد مختارات منها في هذا الكتاب[3] وكذلك في (وتريَّات أُحاديَّة) المترجمة هنا كاملة، وفي كل الأحوال فإنها لا تنفصل كثيراً في بنائها الفنِّي عن تجارب سابقة معروفة لريتسوس، خاصة في «يوميات المنفى»[4] و«ورقيات» لكنَّها تكتسب أهمِّيتها الخاصة في وحدتها الكلِّية، الشكلية والموضوعية.[5]كما أنَّ الزمن فيها هو زمنٌ مركَّب حقَّاً، فمع أنه يبدو وجيزاً وخاطفاً، كما هو الشكل الفنِّي للمقاطع، إلا أن بإمكاننا أن نقرأ خلف هذه «الثواني» آماداً زمنية بعيدة.

وعندما يُصبح الزمن ضرباً من الوقت، بمعنى أنه يصبح فيزيائياً، ويتواطأ مع الموت في ترسيخ شراسة هذه الفيزياء المعادية، ويغدو داهماً ومحفوفاً بالألم الروحيّ والعجز عن المواجهة، يمكننا، عندها، أن نبحث عن مستوى استجابة الشاعر لهذا التحدِّي، وكيفية تفاعله الغريزي والروحي والجمالي معاً، إزاء هذا المشهد النهائي المعقَّد.

ريتسوس يدأب هنا، كما في عموم تجربته، على تكثيف التفاصيل البسيطة لتغدو أساطير موجزة، ويخلق ملحمةً متخفيِّة من اليومي والعادي والمألوف، ملحمة بطلها الشاعر في حواره الأبديّ مع كابوس مصيره المحتوم. حوار ظاهرُهُ المونولوغ، وجوهرُهُ تعدُّد ثري من أزمنة وأشخاص وذكريات تشتبكُ في الباطن، وتخرج مقطَّرةً تقطيراً خاصاً في كيمياء العلاقة الشعرية بين كلمات بسيطة.

بهذا المعنى هو شِعرُ بَساطةٍ، نعم. لكنَّها البساطةُ المعقَّدة، فقصيدته درسٌ نموذجيٌّ وصعبٌ في كيفيَّة أن تتحوَّلَ البساطة إلى نوعٍ من التضليل لمِن لا يتاح له فهم الإرث الخفي للشاعر. بمعنى أن أية قراءة أحادية البعد لشعر ريتسوس هي قراءة ناقصة بالتأكيد. ريتسوس نفسه يعبِّر عن مفهومه لتلك البساطة الغامضة في أولى قصائده التي استهلَّ بها ديوان «أقواس»: بعنوان «معنى البساطة»:

«أتخفَّي خلفَ أشياءٍ بسيطةٍ لتكشِفَني.

وإنْ لمْ تكشفْنِي، ستكتشفُ الأشياءَ،

ستلمسُ ما مسَّتهُ يدايَ،

ولسوفَ تمتزجُ بصماتُ أيدِينا»


وإضافة لهذا فكثيراً ما يُظهر ريتسوس شغفاً بالصور اليومية الخاطفة، حتى تكاد لغته تبدو في هذا التمظهر شيئيةً بسيطة، لكنها تختزن في جوهرها، إرثاً هيلينياً عميقاً وضخماً، ذلك أنَّ تفاصيله المألوفة، مشحونة بطاقةٍ خفيَّةٍ من أساطير بعيدة وهذا ما يجعلها قريبةً وخلَّاقةً في الآن نفسه، ولهذا حذَّر أغلب من اهتمُّوا بنقل شعره للغات الأخرى -وخاصة «بيتر بِنْ» في وقتٍ مبكِّرٍ في تقديمه لأوَّل ترجمةٍ إنكليزيةٍ لشعر ريتسوس- من خطورة الفَهم الظاهريّ للبساطة والاختزال في شِعره، بفعل اهتمامه بمقاربة قضايا الناس التي تبدو شعبيةً، وقضاياه اليوميَّة الشخصية في السجن والمنفى والمرض، فريتسوس ليس شاعراً مباشراً رغم براعة الوضوح الخداعة! لكنه شاعر عَلَني، وثمَّة فرقٌ بين المفهومين وتحديداً على المستوى الفني، كما أنه ليس مُصوِّراً فوتوغرافياً للحاضر، رغم تلك المشهدية الجذَّابة من الصور اليومية التي يمتاز بها شعره، إنما يمزجُ بسحريةٍ عاليةٍ وخفيَّة بين يوميَّاته وأساطير حضارته القديمة. ليخلق ما سمَّاه «بِنْ» نوعاً من الكتابة الثالثة مُستعيناً بذلك المجاز الخفيّ.

أنطلق من هذا التحذير، لأحذِّر أيضاً من أنه لا ينبغي قِراءة هذه القصائد «القصيرة جداً» على أنَّها قصيرةٌ حقَّاً رغمَ حجمِها الذي يُوحي بذلك، وأؤكِّد، كذلك، أنَّ غواية الشكل ليست كافية وحدها لأيَّة أوهام لتسوِّغَ إمكانية خلق نموذج سهل موازٍ لها، ذلك أن كثافتها ومفارقتها المستترة خلف تلك الغواية الشكلية، تخلِّفُ تأمُّلاً طويلاً يمتدُّ إلى نصوصٍ متعدِّدة وأساطير وملاحم بعيدة.

فبراعة ريتسوس في الإيجاز، ليست فنَّاً شكلياً جذاباً، ذلك إنه يخلق من هذا الإيجاز عالماً معقداً مكتفياً بذاته.

بهذا المعنى فهو، سيد الإيجاز، وسارد الملحمة في الوقت نفسه. إنه الساحر الذي يأسر الأبدية في لحظة. والشاعر الذي يراوغ مرآته باستمرار، يلعب معها ويتكَّرُ بوجوه عدَّة ليختبر تعرُّفها عليه.

أُنوَّه أيضاً، إلى أنَّ الزمن هنا، ليس مجرَّد «ثوانٍ» أو «ظلال» أو «أحاديات» كما تصرح به العناوين. أنها «ثوانٍ» ثرية وخصبة تبحث عن الخلود، وليس مجرد مسافة بين الموت والحياة، و«أحادياته» هي مفاتيح ريتسوس السرِّية التي يقدَّمها هدية للقارئ في آخر مقطع. و«ظلال الطيور» ليست عابرة وإنما مقيمة وطويلة أيضاً، أطولُ من العمر وأبعدُ من الوقت.

 

82 ثانية

ملاحظة لـ «يانيس ريتسوس»

 

كتبت الثواني الخمس الأولى في «كارلوفاسي/ بساموس» في 20 آب 1988. بينما كتبت البقية في «أثينا» للفترة من 28 أيلول 1988 إلى 1 كانون الثاني 1989. وتمَّتْ مراجعة العمل جميعه وتنقيحه في «كارلوفاسي» في تموز 1989.

 

-1-

 

في الليلِ،

عجوزٌ أعْمَى

عبرَ الشارعَ،

حامِلاً زهرةَ أُقحوان،

عُهْدَتي الأخيرة.

 


-2-

 

والجرَّةُ الخزفِيَّة،

أحياناً،

عِندما يهبطُ الغَسَقُ،

تنظرُ إلى نَفسِها في المرآةِ،

وُجوهٌ تنمُو مُتورِّدة.

 

 


-3-

 

في وَسطِ الغُرفةِ

طاولةٌ كبيرةٌ،

في الأعلى،

حقيبةُ «تشيلو» فارغةٌ

هلْ تتذكَّرين؟

 


-4-

 

بَينما كانَتْ تنزُلُ

دَرَجاتِ السلَّمِ

سَقطتْ وردةٌ من شَعْرِها.

لمْ التقِطْها.

 


-5-

 

سيكونُ من الأفضلِ إذنْ

أنْ تَبْقَى صاِمتاً.

فإنْ قُلتَ «غداً»

ستبدو كَاذِباً.

الليلُ

لا يمكنُهُ أنْ يُخْفِيك.

 

كارلوفاسي: 20/8/88. 

 


-6-

 

صفَّاراتُ إنذارِ السُّفنِ

تتقاطعُ معَ

رنينِ أجراسِ الكنيسة.

القواربُ

وَصلتِ البرَّ.

الكنائسُ

انتقلتْ إلى البَحْر.

ليسَ سوى كلبٍ وحيدٍ،

وحيدٍ تماماً،

ينبحُ باتجاهِ القَمَر.

 


-7 -

 

هَذا العامَ

زهورُ عبَّادِ الشمسِ

لا تستديرُ نَحْوَ الشَّمسِ،

انحنتْ،

إنها تنظرُ إلى الأرضِ القاحلة.

 

 


-8-

 

بماذَا تفكِّرُ الطيورُ حقَّاً؟

عندَ بدايةِ الخريفِ؟

عندَما في الحديقةِ،

عربةٌ يدويةٌ

بفَخاراتِ زهورٍ فارغة

تركِّزُ في ظلِّها

والأحجارُ العاريةُ

هيَ أوَّلُ مَنْ يتكلَّم.

 


-9-

 

رِيشةٌ بيضاءُ

مِنْ طائرٍ عابرٍ

سَقَطتْ على الأشواكِ.

عالمٌ واهٍ،

صغيرٌ جداً،

العالمُ بأسْرِه.

 

 


-10-

 

بعضُهمْ هاجرَ على السَّفُنِ

آخرونَ بِالقطاراتِ.

بَيْنما الْمَرأةُ العجوزُ

بَقِيتْ

معَ مغزلِها وجرَّتِها.

والخريطةُ على الحائطِ

ظَلَّتْ فارغةً.



[1] صدرت عن دار أروقة/ القاهرة 2017.

[2] ترجم الشاعر عبده وازن. مقاطع مختارة منها عن الفرنسية. وسيجد القارئ اختلافاً طبيعياً بين ترجمتين إحداهما عن الإنكليزية وأخرى عن الفرنسية لنص من لغة ثالثة.

 

[3] اعتمدت فيها على ترجمة الشاعر الإنكليزي ديفيد هارسنت.

[4] ينشر ديوان «يوميات المنفى وقصائد أخرى» متزامناً مع هذا الكتاب.

[5] في ترجمة الشاعر هاشم شفيق لمختارات من شعر ريتسوس بعنوان «طقوس في الليل» دار لارسا 2011، دمج بضعة مقاطع من الثواني، مع مقاطع أخرى تحت عنوان «وريقات» مع أن بين التجربتين عقدين من السنوات.