جورج حاوي... "بطلاً" قصصياً

وضاح شرارة
الأربعاء   2019/03/20
جورج حاوي وفاروق دحروج ورفاقهما في عيون السيمان - جبل لبنان (دياب القرصيفي)
لما رأيتُ جورج حاوي في خريف 1958، وبدا لي في سن العشرين (على ما رويت في عجالة سابقة، جورج حاوي.. "بطلاً" سينمائياً) كان بلغ هذه السن فعلاً، على ما روى هو من بعد، وأخبر بعض رواة سيرته، آرتين مادويان (مادايان) في مذكراته، أو كريم مروة في فصل خص به زميله ورفيقه من الشيوعيون الأربعة الكبار في تاريخ لبنان الحديث (دار الساقي، بيروت، 2009، ص 145) أو جورج البطل في أنا الشيوعي الوحيد أخيراً. وفي سنه تلك، كان حاوي ترك الدراسة الثانوية ولم يباشر الدراسة الجامعية. فهو استعاض عن الاثنتين، وهذا تأويل مني، بانتسابه إلى الحزب الشيوعي المحلي في 1955، في السابعة عشرة.


ووحده جورج البطل يعزو ترك حاوي الدراسة الثانوية، وتخليه حكماً إذ ذاك عن الجامعية، إلى طرده من الامتحانات الرسمية وقد تلبّس بالغش، وحل محل مرشح آخر إليها. ويسكت البطل عن داعي رفيقه إلى فعله الذي عاصر ربما تاريخ انتسابه الحزبي. ولا يتردد مروة في نسج سيرة "لائقة" بمن يعده في "كبار" قومه. فيحمل ترك صاحبه الدراسة، بعد أن حدَّدها له سنة جامعية كاملة في كلية حقوق الجامعة اليسوعية ببيروت، وأغفل مصدر تمويلها. ونوَّه ببنوة الجامعي المفترض عاملاً بناءً، أرثوذكسياً، على باب كلية "مارونية"،- يحمل تركه الدراسة على "تمرد" الشاب "على كل التقاليد والمعتقدات". ويزاوج التمرد الذي يليق بالثائر ولا ثورة من دونه مع "شجارات اضطر فيها مرة إلى أن يستخدم السكين دفاعاً عن نفسه" (ص 145). وإذا صدقت رواية البطل، حق القول أن صيغة مروة تقتفي سنة شيوعية عريقة تقضي برواية سير "الكبار" على مثال منحول، شأن ابن الشعب، سيرة موريس توريز الفرنسي "الشخصية" التي تنسبه إلى الطبقة العاملة، وهو بورجوازي صغير، ولم يكتب سيرته هو بل وقعها وحسب.

المتمرد
وأصل "التمرد"، وصفته العقلانية ("على التقاليد والمعتقدات")، يقود التمرد الفتى إلى "نقاشات" دعته إليها، ولا ريب، عقلانيته، وقيامه على تقاليد، لا شك بالية وسخيفة، أقام على اعتقادها والتمسك بها أقرانه المتخلفون في المتن الطائفي والمذهبي. وقد لا يكون تعليل "الشجارات" و"(استخدام) السكين"، في سيرة قائد شيوعي مبكر ونجيب على ما ينبغي، أمراً يسيراً. ولكن التخييل التقدمي، الاشتراكي والديموقراطي (على "مركب" كريم مروة أو "خلطته" النظرية)، ربط ربطاً محكماً بين قطع الطرق المبكر، في ظروف اجتماعية غير ناضجة، وبين استباق الحركات الثورية المنظمة والارهاص بها، على ما صنع إريك جي هابسباوم، المؤرخ البريطاني والماركسي الكبير في كتيبه قطاع الطرق. و"الغريزة" التي قادت جورج حاوي إلى الانقلاب من السكاكين ("دفاعاً") إلى "التغيير الثوري" والشعبي، أوحت إلى مروة هذه الفقرة من سيرة رفيقه وكتابتها، على وجهها.


وغاية القصص الشيوعي حين ينسج على منوال قصصي شعبي ووعظي هي إبراز البطل في صورة "خارج" على "النظام"، أي على الظلم والتقليد المستمر والاستكانة. ويحسن بصاحب الخروج أن يكون منزهاً عن أي عيب. فإذا ظن مستعيد سيرة جورج حاوي في غشه المدرسي مقايضة أو تجارة فهو قد يظن إثماً. ولكن سكوت رفيقي حاوي المقدَّمين، البطل ومروة، عن تعليل الفعل بل عن ذكره، يدعو إلى (بعض) الظن. ويبقى من هذه الفقرة من السيرة الحاوية أن صاحبها انقطع من سنة التوارث، وخرج على التقليد العائلي المهني والاجتماعي والاعتقادي، واتخذ الخروج مثالاً ونهجاً. وقاده خروجه، أي قادته ثورته إلى الاحتراف المنظم والثوري، وإلى "مصنع" الحرفة الثورية، الحزب الشيوعي.

ولا يوضح من تناولوا سيرة حاوي طبيعة انتسابه المبكر إلى الحزب الشيوعي في 1955. فهل انتسب إلى حزبه ناشطاً في تحركاته وتظاهراته وحملاته المعلنة من إضرابات وتوزيع بيانات وتوقيع عرائض، وربما عضواً عاملاً في خلية تجند محازبين وأنصاراً آتين من مرافق ومواضع متفرقة، أم انتسب، على ما أرجح من غير سند موثق أو شهادة "عدل"، إلى جهاز الحكم المركزي والمحترف والمأجور (لقاء راتب أو مخصص منتظم)؟ والأخبار الشيوعية تتجاهل على العموم هذا الجانب، "الاقتصادي" أو المالي من أحوال المحازبين. وحين يرفع كتّابهم وأصحاب المذكرات منهم لواء استقلال حزبهم عن "السوفيات"، وسفاراتهم وضباط استخباراتهم، عالياً، ويلحون في طلب الاعتراف بهذا الاستقلال، يغفلون الإشارة ولو المرمزة إلى اعتيالهم الكامل، أصولاً وفروعاً، على "مال موسكو"، ومال غيرها على ما فصل جورج البطل.

بيت مال الثورة
وتسويغ الأمر، العالة والإعالة، بالاشتراك، اشتراك المعيل "الموسكوبي" والمعتال اللبناني "الأممي"، في التتلمذ على "المدرسة الفكرية السياسية... الاشتراكية...(و) حركة التغيير الديمقراطي، في الفكر وفي السياسة... (وفي) فكر عظيم قدم إلينا من آخر الدنيا ومن شروط تاريخية مختلفة...(في سبيل) العبور ببلداننا من حالات التخلف القديمة إلى مجالات التقدم الحديثة، تطبيقاً أميناً وواقعياً في آن لأفكار ماركس" (مروة، نفسه، ص 143... 144)- هذا التسويغ الفكري، والروحاني الصوفي، يوهم بـ"مسير التاريخ على رأسه"، على قول ذائع لماركس نفسه. وهو يفترض أن المركزية الاممية، التنظيمية، والإيديولوجية والمالية والعسكرية، تتعالى على التجسد في دولة وجماعات ومصالح، وتوجهها وتقود خطواتها وإجراءات قوة "متألهة"، على قول الخمينيين الحرسيين الذين يعتقدون أنهم يغرفون (يُغرف لهم بحساب يملي بعضه الرئيس الأميركي) من "بيت مال المسلمين"، وليس من خزينة دولة الشعوب الايرانية.

والمقدمة المتمردة تفضي إلى الانتظام في جهاز "دنيوي"، بعضه مالي- ومثل هذا الانقلاب عام. فالخلاص الذي جاء يسوع ببشارة ملكوته زعمت الكنيسة أنها هي هذه البشارة. وابتداء التاريخ، وطي "ما قبل التاريخ" الذي كرز به أصحاب العلم الماركسي، تولت البيروقراطية السوفياتية، اللينينية- الستالينية، تدبير ولايته. ونائب صاحب الزمان، المتواضع، أنشأ دولة تفتيش إكليركية حبرية وعسكرية.


وعلى هذا المنعطف ينبغي تعليل فعل "الفتى" على قول تغريبة بني هلال، جورج حاوي. فلا يليق بمن يحصيه زميله في عداد "الكبار"، "على المستوى العالمي" (ص147)، أن يحمل انخراطه واحترافه الحزبيين، وجمعه بين التمرد في الخارج والانضباط "الصناعي" و"العسكري" (لينين) في الداخل، على تلبية رغبتين أو نازعين: نازع إلى الوظيفة ومرتّبها وأمنها، ونازع إلى احتراف التمرد والثورة، والاطمئنان الذاتي إلى توليهما والسباحة في مياههما. ولا يعصى التعليل "المفكر النقدي" والجدلي كريم مروة. فيكتب مستوفياً التعليل: "... لذلك (وهذه لا محل لها من السياقة، فما قبلها يروي حادثة السكين والالتجاء إلى بيت خالة الوالد) فحين وصل إلى المرحلة الثانوية وإلى الجامعية (وهما مرحلتان يدمج الكاتب الواحدة بين الأخرى ليضيَّع أمراً ما) كانت نشاطاته المبكرة وأفكاره المتمردة قد سبقته، ليخوض معاركه السياسية، من موقعه في الحركة الطلابية والشبابية، بصفته الشيوعية" (ص 145-146 من المصدر).

العلم الصوفي
وهذا، أي تعدي التعليم الثانوي والتعليم الجامعي، وسبقُ الأفكار، والموقع الشيوعي، وغيره مثله من أسرار الباطن وكيميائه، من العلم اللدني الذي يتخطى علم أهل الصوف بالأسماء. فالفتى لم يمضِ على دراسة ما درسه أقرانه العاديون والمتوسطون، الأسوياء، لأنه غرف من مصدر خَص به أهل الصفوة والمجتبون والمهديون، إلى آخر سبحة الصفات التي تسبغها الأدعية والخطابة الإماميتان على أصحابهما. وينتقل هذا الصنف من العلم من طريق يعصى فهمها سائر الناس والخلق. ففي بعض الآثار والأخبار التي يؤولها أهل الجهالة تأويلاً ظاهراً وحرفياً، أن العلم المكنون، وهو نظير "الفكر الاشتراكي" تقريباً، "مصه" الولد الرضيع من "إصبع والده". ولا ينكر صدق الخبر إلا من ينكر عظمة الخلق وغياهبه ولا يتدبر شأن "هذا الأمر" (وهو الحُكم وذروة السياسة، والحزب الحديدي والديموقراطي هو كيان الدولة "المستبق"). وكاتب السيرة يقول بعبارة لا التواء فيها: علم جورج حاوي تحدر إليه من حزبه ومن "فكره العظيم" الذي وهبه، إلى عبقريته الخاصة، "سيرة... مفتوحة على مصراعيها بالوقائع" (ص 145).

والخارج على التقليد، و"المفتوح السيرة بالوقائع" (قد يكون جزء الجملة غامض التركيب والتعدية بحرف الجر، لكنه ناصع المعنى وبديع اللغة)، ومقدَّم "الجيل الجديد"، والمسافر إلى جهات العالم الأربع من بغداد إلى الشيلي إلى كوبا غيفارا، و"شريك" كريم مروة نفسه "في قيادة المنظمة الحزبية في العاصمة بيروت وضواحيها الشمالية والجنوبية والشرقية (ص 146، بينما تولى قيادة الضاحية الغربية نبتون إله البحر شخصياً)- لا يسعه النوم على ضيم الحراسة القديمة. فلم تُخفه مقارعة الحرس الحزبي الجامد والمنغلق على المبادرة "الخلاقة" التي تليق بأصحاب التغيير الثوري- وما أن دخل معقل "الستة" ("موقع... القادة الأساسيين الذين لم يتجاوز عددهم الستة. وهم الأعضاء في سكرتاريا اللجنة المركزية"، ص 147) حتى تصدى لحسن قريطم وصوايا صوايا أولاً؛ وهما من أنصار التبعية التامة لسياسة الاتحاد السوفياتي العربية: في وحدة الحزب الشيوعي السوري- اللبناني، وفي الوحدة السورية - المصرية، وفي "حوادث" صيف 1958 اللبنانية الأهلية، وفي الناصرية... وألزم، ضمناً وعملاً، آرتين مادايان ونقولا الشاوي، مماشاته على "تجديد" السياسة الشيوعية الإقليمية وبعض مترتباتها الداخلية، وعلى الاستقلال عن خالد بكداش، "الكردي"، على قول جورج البطل، وعَقدِ المؤتمر الحزبي الثاني، في 1968، "الذكرى" الخامسة والعشرين للمؤتمر الأول.

الزعيم الفرد
ويندرج "التجديد" المزعوم- ويعود ذيوع الكلمة إلى المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني في النصف الأول من ستينات القرن الماضي، ولفظة "أجيورنامينتو": العودة لأمر فيه تجديد، على قول المتنبي المعروف- وجهاً ثابتاً ومقدراً ولازماً من وجوه سيرة حاوي، في المرتبة الأولى. ويصور مريدوه ومحازبوه ومعتقدو ولايته وريادته وقيادته سيرته في صورة سبحة من المبادرات. وتستوي حبات السبحة، من التمرد المدرسي وترك الدراسة الثانوية إلى الشجار والانتساب المبكر إلى الحزب الشيوعي فمعارضة التقليديين القدماء وتحلق "الشباب"، على مثال واحد. وقاد هذا الحزب الشيوعي اللبناني بقضه وقضيضه إلى الانقياد لجورج حاوي، والتسليم إلى الحلف العضوي والمدمر مع المنظمات الفلسطينية المسلحة وكمال جنبلاط وصدام حسين ومعمر القذافي، وإلى خوض الحروب الأهلية الملبننة وتعويله على تحريرها من "طائفتها"، و"محاولة تحويلها من مسارها الطائفي في الاتجاه الذي يجعلها حرباً ثورية للتغيير" (مروة، ص 161).

وتوقع حاوي استئنافها وتجددها في 1988، حين خلف ميشال عون أمين الجميل، فجند، على ما يروي جورج البطل، 1500 مقاتل في سبيل خوض جديدها، غداة 13 سنة على تجربتها وعلمها وذوقها (زهير بن أبي سلمى). وجنّد قاتلاً محترفاً أوكل إليه اغتيال ميشال عون في قصر بعبدا. وحين يروي جورج البطل هذه "المبادرات"، وغيرها مثلها، ينسبها إلى صاحبها الفرد نسبة لا تشوبها مداولة أو مشورة أو مناقشة، ولا تقيدها معارضة.

ويحصي كريم مروة الورطات التي تورط فيها حزبه، و"على رأسه" رفيقه وزميله وأمينه العام، وأدت إلى أثمان باهظة سُددت دماء قيادية وكادرية وثقافية، و"نفرية" طبعاً وإن لم تذكر ولم تخصص. ويخلص إلى كشف حساب "عام" عن قيادة حاوي. فينفي عنه، في معرض حادثة واحدة، خوضه "معركة شخصية لا علاقة للحزب بها". ويثني على "الموقف الأكثر شجاعة عند جورج حاوي (...) موقفه من انهيار الاتحاد السوفياتي"، وحمله الانهيار على الابتعاد "عن جوهر فكر ماركس (...) وعن مشروعه الاشتراكي لتغيير العالم" (ص179). ومن علياء "أفق الاشتراكية الجديد" ينزل كاتب السيرة المأذون إلى سمة القيادة الحاوية بعد أن يلمح إلى مجازر طرابلس واغتيالات الجنوب والضواحي البيروتية. فيكتب مردداً صدى رأي حاوي في نفسه (على ظني): " ... في مرحلة توليه موقع الأمين العام للحزب، أسوة بكل الزعماء، كان (حاوي) حريصاً على ممارسة دور الزعيم. وكان ذلك يدعوه أحياناً إلى اتخاذ مواقف سياسية بشكل منفرد، مختلفة عن المواقف السياسية المقررة في هيئات الحزب القيادية. وكنا ننتقده. لكنه كان مع ذلك يكثر من تلك المواقف. وبهذا المعنى كان يحمل أمراض نظرائه من الزعماء في أحزابهم وبلدانهم" (ص 179- 180)، ويستدرك القيادي الزميل قائلاً: "إلا أنه كان كثيراً ما يمارس النقد الذاتي بجرأة قل نظيرها". ولا يكتب: على ما يفعل "نظراؤه من الزعماء" في سدات بيونغ يونغ وبنوم بنه وآلما آتا وبوخارست... وكراسيها.

نخبة كرّارة
فكأن سيرة جورج حاوي (1938-2005) السياسية الحزبية والاجتماعية أولاً مرآة جزئية لمصير الفردية في بعض أطوار المجتمع اللبناني المعاصر. فابن الحرفي الميسور- وافتراض يسره يترتب على تمويله تعليم ابنه في مدرستين رهبانيتين وعلى اقتراح تمويل تعليم جامعي من بعد- يتخفف طوعاً وطبعاً من وراثة والده على وجهي الوراثة: وراثة الحرفة ووراثة تمويل الارتقاء الاجتماعي الذي يقود إليه التعليم. ويغلِّب تخففه طبعَه المشاكس، وهو ابن مسيحي أرثوذكسي وأقلوي في مجتمع كثرته مارونية، على محافظة اجتماعية ومسلكية ترجحها عادة العصبية الأقلوية. وبدلاً من أن يقوده خروجه على المحافظة الاجتماعية إلى "الانحراف" الشللي والجرمي، وإلى "حياة المدموغين بالعار" (على قول ميشال فوكو في بعض "العيارين")، قاده إلى احتراف تمرد وخروج سياسيين وخطابيين ("ايديولوجيين") نمطيين ومقيديْن ومرتبين.

فالفتى الذي أدار ظهره قبل أن يبلغ العشرين وفي منتصف العقد السادس اللبناني "الشمعوني" (كتابة عن "تفتح" اقتصادي واجتماعي وثقافي وسياسي متحفز)، إلى حياة منتظمة ومتوقعة في كنف عائلي وعصبي ساكن، لم يرتمِ في أحضان مغامرة مرسلة لا يسع صاحبها إلا التعويل على نفسه فيها. فهو يتمرد على أبنية اجتماعية مقيدة، من وجه، ويدخل من وجه آخر في بنيان اجتماعي شديد الانضباط والتقييد. ولكنه لا يفترض عدة سابقةً، ولا معيار تصنيف وترتيب يقود إلى التمييز وضبط الارتقاء والمنافسة. والمنخرط في البنيان الحزبي الاجتماعي هذا، وهذه ميزة المنظمات الإيديولوجية، لا يتحرر من قيود التصنيف والتمييز الموروثة وحسب ويدخل سوق منافسة حرة، بل يرتقي، حُكماً ومن دون جهد، مرتبة فكرية و"علمية" وثقافية عالية. فهو، من تلقاء انتسابه إلى الطليعة التاريخية، يدخل في عداد النخبة الانسانية والفكرية "الكرارة"، التي "تكر على السماء" (على قول بعض فصائل الحركة العالمية في استيلائها على السلطة) وتصنع التاريخ، وتؤمه إمامة، وترث رؤوس خزائنه وفروعها.

فيجمع "المتمرد"، ذو النازع الفردي والمبادر والخارج على التقليد، المغامرة برأسه إلى انضباط الجماعة المتماسكة، ويحوز صدارة من طريق الانتساب إلى الجماعة والذوبان فيها. ويقارع مراتب المجتمع الأوسع (المجتمع الوطني)، من "مستوى" دخل وتعليم ومكانة ودالة، بمراتب هي نقيض الاول وأضدادها وبدائلها. فإذا أصعد في هذه المراتب، وبلغ ذورتها، استحق أو اكتسب أمراض "نظرائه من الزعماء"، على قول من كان قريباً من أن يكون نظيراً لصاحبه. وجاز له أن يعمل برأيه: فيخوض حرباً "طائفية" على وجه "حرب تغيير ثوري"، ويوقع أصحابه وأنصاره ورفاقه في الأفخاخ الدامية والمميتة، ويتقاضى عن حزبه مخصصات تقسم بين الحلفاء والرعايا بالسوية الظالمة... وهذا لقاء "فهم أفق اشتراكي جديد" وسعي فيه لا يكل. فالأفراد والآحاد الذين فتتهم المجتمع اللبناني في بعض أوقاته، وذررهم من جماعاتهم، عاد وأدخل بعضهم في أبنية جمعية وعصبية صلبة، وسلط عليهم سلطات تملك من النفوذ والقوة والصرامة ما تبدو السلطات التقليدية بإزائها هزيلة وخاوية الوفاض.

وخسر ما بدا سيرة فردية في بداية القص روائيتَه الحرة والمشرعة على كثرة الاحتمالات، وعاد إلى جبرية الأسطورة والحكاية البطولية والعنترية الرتيبة.