تشريح شوبنهاور روائياً

أسامة فاروق
السبت   2019/02/23
استطاع يالوم من خلال عمله كطبيب نفسي أن ينتج أعمالاً أدبية فلسفية
"في جلسة علاج جماعي، تصادف امرأة رجلا كان أستاذها منذ سنوات عدة، واستغلها جنسيا". عبارة قوية، كانت تصلح تماما مفتتحا لعمل كبير، لكن جوليوس بطل رواية إرفين يالوم "علاج شوبنهاور" لا يفعل، يكتفي بهذا السطر وحده، فحياته كانت أقصر من أن يعرف تطورات تلك العلاقة الحقيقية علاوة على أن يكتبها في رواية.


كان نيتشه يرى أن شوبنهاور "أفضل المربّين على الإطلاق". كان في رأيه يمتلك الشروط التي ينبغي توافرها ليظهر العبقري في عصرنا: شخصية رجولية حرة، معرفة مبكرة عن الإنسانية، بلا تربية علمية، حر من كسب لقمة العيش، لا روابط مع الدولة. باختصار، هو الجو نفسه الذي نشأ فيه فلاسفة اليونان. لكنه، ولهذا كله أيضاً، يرى أن العثور على مثل هؤلاء المربّين الأخلاقيين أمر صعب جداً: "فأين هم أطباء الإنسانية الحديثة، الأقوياء والصامدون كفاية، بحيث تكون لديهم القدرات لمساعدة الآخرين وإرشادهم إلى الطريق؟".

وكأنه يجيب على أسئلة نيتشه وبالمنطق نفسه يقدم إرفين يالوم، شوبنهاور كمعالج نفسي، حيث يستكمل في أحدث رواياته المترجمة للعربية "علاج شوبنهاور" مشروعة الكبير في استخدام الفلسفة روائياً، والذي قدم فيه من قبل "عندما بكى نيتشه"، و"مشكلة اسبينوزا"، و"مستلقيًا على الكنبة". وكما استحضر نيتشه من قبل في روايته "عندما بكى نيتشه" يستحضر شوبنهاور هذه المرة إلى جلسه علاج نفسي يقودها جوليوس المشرف على الموت!

تبدأ أحداث الرواية عندما يكتشف المعالج النفسي، جوليوس هيرزفيلد، وهو في الخامسة والستين من عمره إصابته بسرطان الجلد. الاقتراب من الموت يجعله يعيد التفكير في معنى الحياة، يعيد التقليب في سجلات مرضاه بحثاً عما قدمه من خدمات علها تقنعه بأنه قد قدم في حياته ما يستحق الفخر، لكنه بدلاً من ذلك يقع على ملف الإخفاقات. يفتح ملف فيليب سلايت أكبر إخفاقاته على الإطلاق، فمنذ 20 عاماً فشل خلال جلسات العلاج التي امتدت ثلاث سنوات في علاجه من الشهوة الجنسية المرضية أو ما يعرف بإدمان الجنس.

يقرر جوليوس أن يقابل إخفاقه وجهاً لوجه، يبحث عنه ويطلب مقابلته، بحثاً عن أي تأثير لعلاجه حتى ولو على المدى المتقدم، يكتشف خلال المقابلة إن مريضه السابق في طريقه إلى أن يصير معالجاً هو الآخر، لكن عبر طريق مختلف أكثر وعورة، عبر طريق الفلسفة التي توسع رؤية الإنسان للحياة، حيث آمن فيليب سلايت أن الفيلسوف الألماني الكبير آرثر شوبنهاور نجح في ما فشل فيه جوليوس هيرزفيلد. لذا، قرر استخدام فلسفته في الحياة وتطبيقها بجلسات علاج نفسي، لكنه حتى يصير معالجاً يتبقى له خطوة واحدة تتطلب إشراف أحد المعالجين، فيتفق جوليوس وفيليب على أن يشرف الأول على الثاني شريطة أن يشارك فيليب في جلسات جوليوس العلاجية لمدة ستة أشهر.

عبر خطين متوازيين يقدم يالوم سيرة حياة شوبنهاور ووقائع جلسات العلاج وأبطالها: "بام" التي تعاني من مشاكل مع الرجال في حياتها والحائرة بين زوجها السابق وحبيبها، و"ريبيكا" ملكة الجمال التي يؤثر شكلها دائما في علاقتها مع الآخرين، و"توني" الذي فشل في علاج أسباب شجاره المتكرر مع زوجته، و"جيل" الذي يعاني من الأمر نفسه بالإضافة إلى إدمانه للخمر، و"ستيوارت" الذي يعاني من مشاكل عائليه مع زوجته وأولاده، و"بوني" التي لا تتقبل شكلها والتي تعاني أيضا بسبب الوحدة التي تعيشها ومشاكلها مع ابنتها وزوجها السابق. تتعقد الخيوط أحيانا وتتشابك، لكن يظل جوليوس قائدا حكيما محافظا على ترابط تلك السفينة مهما اشتد الموج وعصفت الرياح، مصمما على إنجاح طريقته العلاجية التي تعتمد في الأساس على قوة العلاقات بين الأشخاص "سأعطيك الدرس الأول في العلاج بالتحليل النفسي، مجاناً. ليست الأفكار ولا الرؤية ولا الأدوات هي التي تهم حقا في العلاج. فإذا سألت المرضى في نهاية العلاج عن رأيهم في العلاج، فماذا سيتذكرون؟ لن يتذكروا الأفكار أبداً- بل سيتذكرون العلاقة دائماً" بعكس فيليب الذي لا يؤمن بأهمية العلاقات وجدوى التواصل "أنا وأنت نختلف جوهرياً. فأنا لا أستمد أبداً متعة من صحبة الآخرين-كلامهم الفارغ، طلباتهم، مساعيهم التافهة العابرة، حياتهم عديمة الجدوى- وهي تشكل مصدر إزعاج وعقبة في وجه تبادلي الأفكار مع حفنة من الأرواح العالمية العظيمة التي تمتلك أشياء مهمة تقولها".

تبدأ المنافسة الحقيقة بين الأفكار بدخول فيليب سلايت، إلى مجموعة العلاج، وبالتحديد عندما يلتقي مع "بام" التي وقعت ضحية شرهه الجنسي في السابق، خلال الجلسات تُشرّح أفكار شوبنهاور وفلسفته التي تُمرر عبر سلايت نفسه الذي يقدمه المؤلف كشخص منعزل وحيد، لفظ العالم فلفظه، رغم معرفته الواسعة ورؤاه العميقة في الحب والحياة بشكل عام، بالإضافة إلى انتحار والده وعلاقته السيئة طوال حياته مع أمه، ومع كل الجامعات التي عمل بها، فسلايت بشكل ما هو شوبنهاور نفسه، استعاده المؤلف ليشارك بفلسفته في حل مشاكل العلاقات الإنسانية في القرن الحالي، وتقوم المجموعة بدور الناقد والمفند لتلك الآراء الفلسفية في جلسات "عصف زهني".

مغامرة حقيقية.. شوبنهاور العدمي كاره البشر، الذي يحتقر مؤسسة الزواج، ويؤمن بأن "أي تواصل مع البشر يكاد يكون تلويثاً، تدنيساً" وبأن "الإنسان السعيد هو الذي يستطيع أن يتحاشى معظم المخلوقات من بني جنسه"، يشارك في حل مشكلات العلاقات الإنسانية والعاطفية! فهل نجحت فلسفته في علاج المجموعة؟ هل نجح في أن يجعلهم سعداء؟



بشكل ما، خضعت جميع قضايا الحياة الأساسية لدراسة شوبنهاور الفلسفية، ولم تكن الشهوة الجنسية استثناء، وهي بطبيعة الحال كانت المحور الرئيسي لجلسات العلاج من وجهة نظر فيليب، باعتبارها "الهدف المطلق لجميع الجهود الإنسانية" الجنس بالنسبة إليه هو الجزء الخفي لكل الأعمال والتصرفات، ينبثق في كل مكان بالرغم من الحجب التي تُلقى فوقه. إنه "سبب الحرب وغاية السلام، إنه نبع الذكاء الذي لا ينضب، مفتاح كل الإيحاءات ومعنى كل التلميحات الغامضة، وجميع العروض غير المنطوقة، وكل النظرات المختلسة".

يستشهد فيليب/شوبنهاور بأسطورة إكسيون أو بأسطورة تانتالوس، لوصف معضلة الوجود الإنساني، كان إكسيون ملكا غير مخلص لزيوس فعاقبه بأن قيده في عجلة نارية تدور في الأبدية. أما تانتالوس الذي تجرأ وتحدى زيوس، فقد عوقب على غطرسته بأن يُغوى إلى الأبد، لكن رغباته لا تتحقق. وفكر شوبنهاور في أن الحياة الإنسانية تدور حول هذا المحور بالتحديد: الحاجة بعد كل إشباع.

كان يؤمن بأن الإنسان لا يكون سعيداً أبداً، لكنه يمضى حياته كلها في السعي جاهداً لتحقيق شيء يخيل إليه بأنه سيجعله كذلك، ونادراً ما يحقق هدفه، وعندما يحققه فإنه سرعان ما يشعر بخيبة الأمل: في معظم الأحوال يكون محطماً في النهاية، ويصل إلى الميناء وقد اهترأت حبال الأشرعة والصواري. ثم يصبح الأمر سيان، سواء أكان سعيداً أم بائسا، لأن حياته لم تكن شيئا أكثر من لحظة راهنة، تتلاشى دائما، وقد انتهت الآن.

عبر تلك الأفكار وغيرها من أفكار شوبنهاور، خاض فيليب سلايت رحلة استشفائية طويلة، نفذ خلالها كل ما حفظه وآمن به من فلسفة شوبنهاور في الحياة، حتى إنه آمن أن وجوده نفسه ساعده على الخروج من الحالة التي كان أسيرا لها "إن شوبنهاور جعل شهوتي الجنسية طبيعية. جعلني أرى كيف أن الجنس مطلق الوجود، وكيف أنه في أعمق المستويات، يشكل النقطة المركزية لجميع أنواع السلوك، يتغلغل في تصرفات البشر، بل حتى إنه يؤثر على جميع شؤوننا في الحياة". 

إن وجود شخصية عاشت وأثرت بهذا الشكل رغم إيمانها بـ"كراهية البشر" أعطى فيليب سلايت القوة للاستمرار في الحياة، بالإضافة طبعا إلى أفكاره "إحدى أفكار شوبنهاور التي ساعدتني، قال فيليب، هي الفكرة بأن السعادة النسبية تنبع من ثلاثة مصادر هي: ماهية الشخص، ماذا يملك، وماذا يمثل في نظر الآخرين. ويحثنا التركيز على الأولى فقط، وألا نعتمد على الثانية والثالثة –أي عن الامتلاك وعن سمعتنا- لأننا لا نستطيع التحكم بهذين الشيئين؛ ويمكن أن يسلبا منا، وهذا سيحدث فعلا، تماما كما أن شيخوختك ستسلب جمالك حتما. وفي الحقيقة، فإن "للامتلاك" عاملا عكسيا، وقال إن ما نملكه يبدأ يمتلكنا في غالب الأحيان".

اقتنع فيليب أن شوبنهاور بالتالي هو الأقدر من جوليوس على علاجه وعلاج المجموعة، باعتباره أول فيلسوف ينظر إلى الدوافع والمشاعر من الداخل، دون الحاجة إلى أي تواصل مع الكائنات التي كان يحتقرها لأنها أساءت تقديره، ورغم ذلك ستجد عنده دائما ما يجيب على أسئلتك، فطوال فترة عمله كتب باستفاضة عن المخاوف والشواغل الإنسانية الداخلية: الجنس، الحب، الموت، الأحلام، المعاناة، الدين، الانتحار، العلاقات مع الآخرين، الزهو، تقدير الذات. وتطرق أكثر من أي فيلسوف آخر إلى تلك الدوافع المظلمة في داخلنا إلى حد أننا لا نستطيع تحمل أن نعرفها، لذلك يتعين علينا كبتها.

صحيح كان شوبنهاور يجعل فيليب غامضاً ومميزا وملفتا، لكن لم يجعله مفهوماً ولا محبوباً، اكتشف مع استمرار الجلسات أن شوبنهاور يعقد المسائل أحيانا، ففشل حتى في منح جوليوس العزاء لرحيله الوشيك، بينما نجحت المجموعة ببساطة فقط عبر نجاحها في التواصل. بشكل ما تورط فيليب في جلسات جوليوس، واستمر لستة شهور أخرى لم يستطع خلالها الإفلات من التواصل مع المجموعة، اكتشف أن التواصل الإنساني وحده القادر على منحه المحبة والغفران حتى مع النواقص، وأن الحياة لا يمكن أن تستمر بدونه أو على الأقل فإنها معه تصبح ممكنه ومحتمله، أعاد فيليب اكتشاف نفسه مجددا. انتهت الجلسات بعلاجه من شوبنهاور!

الملفت إنه رغم تعقد القضايا التي تطرحها الرواية عبر أكثر من 400 صفحة، فلم يفقد المؤلف خيط السرد إلا فيما ندر في بعض الصفحات التي بدت كمحاضرات سريعة في فلسفة شوبنهاور وأشهر مقولاته، لكن رغم ذلك لم تجبره الأفكار الفلسفية الشائكة على أن يلوى عنق النص باتجاهات معينة، إنما تسير الوقائع بشكل سلس مشوق وتمر أعقد القضايا الفكرية بشكل مقبول.

يسأل المؤلف في نصه: لو كان آرثر شوبنهاور يعيش في يومنا هذا، فهل سيكون مرشحا للعلاج بالتحليل النفسي؟ ويجيب: بالتأكيد! لذا فإنه يختم العمل بجلسة علاج جماعي يديرها فيليب/ شوبنهاور بعد أن نجح في المساهمة بعلاج المجموعة الأولى أو بالأحرى نجحوا هم في تشريحه ومن ثم علاجه، فشوبنهاور لم يكن أبدا ليقبل أن يجلس جلسات كتلك لمساعدة قطيع من الكائنات التي تسير على قدمين!

(*) إرفين د. يالوم كاتب، روائي وطبيب نفسي، ولد في واشنطن العام 1931، استطاع من خلال عمله كطبيب نفسي أن ينتج أعمالاً أدبية فلسفية يناقش من خلالها العلاقات الإنسانية، العزلة، تقدير الذات، الأخلاقيات والحرية.

"علاج شوبنهاور" أحدث أعماله المترجمة للعربية، ترجمها: خالد الجبيلي وصدرت عن منشورات الجمل.