"جرجارة" لناصر عجمي...عين صادقة وقلب على صيادي صور

رنا نجار
الأحد   2019/12/08
الصيادون: منهم من التزم البيت عاطلاً من العمل، ومنهم من يرفض الاستسلام للرياح
وضع فيلم "جرجارة" للفنان والباحث في علم الاجتماع ناصر عجمي (إنتاج 2005) الذي عرض مساء أمس في خيمة "الملتقى" في موقف اللعازارية وسط بيروت، إصبعه على جرح قضايا البحر وصياديه وتهديد الثروة السمكية الى الواجهة مجدداً من وجهة نظر سينمائية، تعتمد السوسيولوجيا كمكوّن أساسي للصورة  قبل المكوّن الفني.

ببساطة مسرفة وصدق قلّما نجده في السينما لا سيما الوثائقية، يتطرّق الفيلم إلى أحوال الصياد المتردّية التي حوّلته من "ريّس المينا" الى "مشروع مهاجر أو عاطل عن العمل، كما حصل مع بطل الفيلم زوزو، الذي ترك الصيد بعد خمس سنوات من تصوير الفيلم وهاجر الى العراق، ثم مات في عمر لم يتجاوز الخمسين. كما في طياته تلميحات الى غياب الدولة، وتفريغ النقابات من مضمونها عندما يعرّج على دور نقابة الصيادين ووزارة الزراعة والجمعيات الأهلية التي "تصرف التمويل الهائل على الباحثين والخبراء الاجانب من دون أن يستفيد الصياد بشيء".

يفتح الفيلم الباب على مشكلة نفاد الثروة السمكية في العالم وليس في لبنان فقط، من خلال مشاهدات الصيادين في صور وسرد مشكلاتهم مع انخفاض عدد الأسماك وهجرتها بحرهم بسبب التلوث واستخدامات الصيد الممنوعة وغير القانونية وعدم المراقبة. وقد ذكرت منظمة الأمم المتحدة أن 90 في المئة من المخزون السمكي في العالم إما نفد أو أوشك على النفاد بسبب إفراط الناس في الصيد والتلوث والاستخدامات المحرمة في طرق الصيد.

"جرجارة" ليس فيلماً ترفيهياً، هو فيلم سياسي بامتياز، إذ يلقي الضوء على معاناة 750 صياداً في صور في العام 2005، أصبحوا اليوم 300 صياد، منهم من هجر المهنة ومنهم من مات بحسرته ومنهم من ابتلعه البحر مثل محمد فران، ومنهم من التزم البيت عاطلاً من العمل، ومنهم من يرفض الاستسلام للرياح... هو فيلم سياسي لأنه يلقي الضوء كيف تريد الدولة اللبنانية عبر أحزابها وطوائفها في المنطقة، أن تُبقي هؤلاء الناس فقراء لا حول ولا قوة لهم سوى رضا الزعيم وأزلامه خصوصاً في امتحان الانتخابات البلدية والنيابية. وكيف تُسيّس المشاريع التنموية ومن ثم تفشل. وكيف يُستبعد الصيادون من أي مشاريع معمارية تحاكي تراثهم الإنساني والبيئي وحقّهم في السكن اللائق... وقد أعطى الفيلم مثلاً عن النهوض بالواجهة البحرية لميناء صور التي "لم يستفد منها أبناء الحي بشيء، بل أفادت نظر السائح فقط"، بحسب حديث أحد الصيادين أيضاً.

هو فيلم سياسي لأنه يكشف غياب وزارتي الزراعة والبيئة وهيئة الحفاظ على الثروة السمكية ومشاريعهم التنموية التي تُحفظ بالأدراج، بينما "قعر بحر صور محروق يابس لا طحالب فيه ولا مرجان ولا ثمار بحر كما كان في السابق"، كما قال أحد الصيادين في الفيلم. وهو فيلم سياسي لأنه يُعرّي عمل النقابة، ويكشف أيضاً غياب التضامن الاجتماعي والتعاضد من قبل أهل المدينة الغنية بمواردها ومتموّليها... كما أنه يكشف غياب المجتمع المدني أيضاً، كمحرّك أساسي لقضايا الصيادين والتراث الانساني وحق السكن في المنطقة، كما جاء على لسان أحد الخبراء الاقتصاديين في الفيلم.

الفيلم (تصوير قصي حمزة ومونتاج محمد المصري) الذي شارك في مهرجانات دولية وعربية، لم يُعرض بشكل رسمي في بيروت من قبل، بل اقتصر عرضه في أماكن ثقافية بديلة في صور وبيروت على نطاق ضيّق. ولم يلتفت إليه الناس قبل بدء "ثورة 17 تشرين" التي أعادت الى اللبنانيين اهتماماتهم بالهمّ الإنساني والبحث ما وراء العمل الثقافي على فعل سياسي سوسيولوجي، كما حصل ليلة أمس، حيث فوجىء المشاهدون الذين يعرفون صور كمدينة اصطياف وترفيه، ولا يعرفون أوجاع ناسها على بعد أمتار من الشاطئ الجميل، الذي يتمتعون بنعمه.

"جرجارة" المصوّر بعفوية وتلقائية تنتمي إلى سينما الواقع، يوثّق لحياة الصيادين البسيطة ويومياتهم الروتينية منذ عشرات السنين. تدخل الكاميرا الى أحيائهم المتهالكة المحاذية للبحر في صور القديمة او "تيروس"، والى أزقتهم الضيّقة ثم إلى بيوتهم الصغيرة المفعمة بالعاطفة والتماسك الاسري. فتقترب العدسة من أطباقهم اليومية من اللبنة والفول والبطيخ والبندورة، ومن غرف نومهم التي تتبدّل في النهار لتصبح غرف جلوس، ومن شرفاتهم المشرّعة على الرياح العاتية التي لا أحد منهم يعرف عقباها.

تتنقل الكاميرا التي رافقت الصيادين لمدة ستة أيام على مدى 24 ساعة متتالية، بين ميناء صور حيث يقضي هؤلاء الرجال الطيبون وأولادهم معظم أوقاتهم أو بحسب تعبير أحدهم "البحر كل شي بحياتي"، وبين بيوتهم ومحلات بيع السمك التجارية التي يسلّمونها ما "توفّقوا به من رزق. لكن المشاهد لا يشعر أنه يشاهد فيلماً بل يشعر كأنه موجود هناك على الميناء، ويشمّ رائحة البحر و"زنخة" السمك، ويشعر برذاذ الملح عالقاً على جسده، لشدّة ما يضجّ الفيلم بالحياة والعاطفة والمصداقية التي قلّما تنجح الكاميرات في التقاطها. فيجد المشاهد نفسه متورّطاً في الانحياز الى قضية الصيادين وتلوّث البحر والتفكير بحلّ لإنقاذ الثروة السمكية التي باتت "شبه منقرضة" بحسب الصيادين، وهو ما ظهر على وجوه الحاضرين من شباب وكبار في السن ممن حضروا الى خيمة الملتقى.


هذا الصدق اللاذع في الفيلم، كان عجمي يقصده لأنه كان يشعر بخيبة أمل او عقدة بالذنب تجاه أبناء بلده خصوصاً بعد فشل المشروع. فهو كان متعاطفاً مع الصيادين، ويريد نقل معاناتهم الى العالم، علّ أحداً يسمعه ويلتفت اليهم. فلجأ الى المخرج الراحل جان شمعون وقتها يقول له قصة الفيلم، طالباً منه المساعدة ليجد له تلميذاّ من تلامذته ليُخرج الفيلم. لكن شمعون وجد في ناصر عجمي مخرجاً مختبئاً، فقال له: "أنا رأيت الفيلم كاملاً من خلال كلامك والتفاصيل التي تحكيها وحماستك، فلن تجد أفضل منك لاخراجه وانت الذي خبزت الصيادين وعجنتهم". وهكذا انطلق عجمي الى الاخراج للمرة الأولى، "ليس بهدف الاخراج بل بهدف إنساني"، كما يقول.

عجمي ابن صور الذي جاور البحر منذ ولادته، وأكل من خيراته وسبح وعائلته في مياهه عندما كانت نقية وعندما أصبحت ملوّثة. لكنه لم يعرف حياة الصيادين الحقيقية الذين يرزحون تحت خط الفقر منذ عشرين عاماً تقريباً، إلا عندما عمل كباحث في مشروع "التنمية الاقتصادية الاجتماعية لمدينة صور" بين 2002 و2007، الممول من الاتحاد الاوروبي والتعاونية الايطالية. "لقد أمضيت سنوات بين الصيادين ليلاً ونهاراً، حتى أصبحت واحداً منهم أزور بيوتهم وأشاركهم أوجاعهم"، يقول عجمي لـ"المدن". ويضيف "كان دوري صراحة أن أعطي وعوداً للصيادين بتحسين قطاعهم في صور من خلال إعمار سوق السمك، وتنظيم النقل في البحر لتسهيل عمليات الصيد خصوصاً الشبك، وإرسال السمك الى المناطق، والعمل على تأمينات صحية وبدل أتعاب عندما يكون الصيد محظوراً في شهري آب وأيلول خلال الاباضة... لكن للأسف هذه الوعود لم يُنفّذ منها شيئاً بل ازداد وضع الصيادين سوءاً".

والـ "جرجارة" هي طريقة تقوم على ربط صنارة الى خيط نايلون سميك، يوضع في طرفها سمكة صغيرة كطعم، ويصار الى سحبها أثناء سير الفلوكة، فيتهيأ للسمكة الكبيرة انها قد عثرت على فريسة سهلة المنال، فتنقض لافتراسها فتعلق في صنارة الصياد الذي يعمد الى سحبها مباشرة من الماء الى داخل الفلوكة.