مكتوب إنشائي عن الثورة: "يخلّي ما يشيل"

روجيه عوطة
السبت   2019/12/07
أقنعة
بيّنت الثورة في لبنان، أن المكتوب حولها، وحين يكون صادراً عن الوسط الثقافي، يبرز أنه يتحدث عنها لأجل من هم ليسوا فيها، ليسوا من خائضيها، أي لطبقة بعينها، وهي الطبقة البرجوازية، التي تلتحق على تدرجاتها بالثورة على أساس التضرر من النظام، وليس التعرض له. بالتالي، لا تمر الثورة في المكتوب، مثلما لا يمر فيها، إنما يبقى على مسافة منها، وهذا، على اعتقاد أن هذه المسافة تجعله على بيّنة من وقائعها.

لكن، طبعاً، هذه المسافة ليست سوى حاجز مرفوع، من زجاج بالتحديد، بين مصدر المكتوب، الوسط اياه من جهة، والحدث، الثورة نفسها من جهة أخرى. ولهذا الحاجز الزجاجي دور محدد، وهو أن يقي المكتوب من الثورة، وفي الوقت نفسه، يسمح له أن يتألف على أساس التفرج عليها بغية نقلها. ومن هنا، تغدو مشهداً دائراً على ذلك الحاجز، الذي يتحول عندها إلى شاشة، ويصير المكتوب عنها شبيهاً بالتعليق عليها. التعليق فن، لكنه، في هذا السياق، ولأنه لا يتحدث عن الثورة من موقع خوضها، إثباتاً له وحضاً عليه، إنما من موقع مظهّرها، ينقلب إلى مجرد تسجيل لأثرها، الذي يتأرجح، ومثلما هو وضعه حيال كل مشهد، بين التحمس أو الملل، أو بين المشابهة والانسحاب منها. ففي حال كان هذا الأثر هو التحمس، ينم المكتوب عن مشابهة الخائضين عبر التكلم بلسانهم. أما إن كان هذا الأثر هو الملل، فينمّ المكتوب عن الانسحاب من المشابهة إلى ما هو قريب من الخيبة. وفي الحالتين، يتوجه المكتوب إلى الطرف عينه، إلى البرجوازية.

فعلياً، لا يمكن أن يتوجه المكتوب إلى هذه الطبقة سوى لأنه مؤلف لها، أي، وبمعنى آخر، هي التي تؤلفه، لكي تحث ذاتها على الالتحاق بالثورة، أو من أجل أن تكف عن هذا الالتحاق حين لا تعود متضررة. ودائماً، لكي لا تخوض الحدث، وفي الوقت نفسه، تحتمي من خوضه لها. كما لو ان هذه الطبقة تلتحق بالثورة فراراً منها، ولهذا، وفي بعض الأحيان، تنتقل إلى المزايدة على خائضيها، علّها تظهر الفرار كأنه خوض.

هكذا، قد ينقلب المكتوب إلى تدريب لهذه الطبقة على ذلك الالتحاق، أي الفرار من الثورة، والمزايدة فيها، وتدريبها هذا يكون بتجهيزها ببعض الأفعال أو الانفعالات أو المواقف: اليوم، على البرجوازية ان تتفلت. غداً، تذهب إلى الغبطة. بعد غد، تجتمع على التآزر. وبهذا، يكون المكتوب دليلها إلى كيفية التثور، وككل دليل، حلمه، وحلم قارئه، هو الوصول إلى وضع معين: تحقيق المتدرب لموضوعه بتنفيذ كل معاييره. لكن هذا الحلم يظل حلماً. فالمتفرج على ثورة، ولو تشابه مع خائضيها، لا يصير واحداً منهم، بل يمثل حضورهم بعد تحويله إلى دورٍ، وهو يفعل ذلك لكي لا ينتبهوا إلى كونه لا يخوض على منوالهم. إنه يمثل حضورهم-دورهم لكي يمثل عليهم أنه يخوض الثورة الى جانبهم. فتمثيل الحدث هو تمثيل على خائضيه.

الا أن خائضي الثورة، وفي لحظات كثيرة، ينظرون إلى الممثلين، ينظرون في عيونهم، وحينها، تكشف نظرتهم عن تمثيلهم. يقولون لهم: "أنتم اقدمتم على كذا وكذا، وهذا مخالف للخوض، ونقيض له". وعندها، يذعر الممثلون من جلاء حقيقة أنهم يفرون من الثورة ولا يخوضونها. ولكي يسعى مكتوبهم لإسعافهم، يحدد لهم خطيئة من الخطايا ليوعظهم حولها، كأنه يصير رسالةً، يتلوها كاهن على مسامعهم، وما عليهم من بعدها سوى الإدلاء بفعل الندامة لكي يغتسلوا من ذنبهم. وبالفعل ذاته، يصونهم من انكشاف أمرهم عبر تقديم موضوع مغاير لذعرهم، وما هو إلا الخائضين: "انتم أخطأتم، ليس لأنكم تمثلون على الخائضين، لأنكم مثلتم عليهم بهذه الطريقة، وليس بتلك، وأنتم خفتم، ليس من انكشاف تمثيلكم، إنما من الخائضين أنفسهم، من وحشيتهم". بالطبع، نافل الاشارة ان "الوحشية" التي يتحدث  المكتوب عنها  ليست سوى وصف لكون حضورهم ليس دوراً، يعني وصف لبديهة من بديهيات الحياة. فهذا المكتوب لا يتحمل أن يكون الحضور أمامه غير مضبوط بدور، لأنه، بذلك، لا يستطيع نقله، وبذلك، لا تستطيع طبقته تمثيله.

فحصر الخوض، تحديده بـ"هكذا يكون"، و"هكذا لا بد أن يكون"، هذه هي مهمة المكتوب، بحيث أنه بهذا الشكل يتيح لطبقته ان تمثله لكي تبقي على فرارها منه، على فرارها من كون ممارستها له، لهذا الخوض، هو أمر محال. إنه مكتوب لكي لا يظهر أن الثورة هي، وببساطة، في مواجهة هذه الطبقة، إنه مكتوب من دون الثورة، ولهذا، لا يمت للسياسة بصلة، إنما ينطوي على تلك "السياسة" التي سادت في النظام، أي الدسائسية البحتة.

والمكتوب الدسائسي ليس مكتوباً، بل ينخفض إلى مجرد انشاء ينطوي على بغية البحث عن دور ما، وقبله، الرسوخ في موقع طبقي. وهذا، معلوم أن لا علاقة له بالكتابة، ذلك، أنها ممارسة تخرج من الطبقة، ولا تبقي فيها، فهي، أيضاً، وبالتوازي مع كونها تشييدية، "بتشيل ما بتخلي".