ثقافة 17 تشرين

روجيه عوطة
الإثنين   2019/12/23
ثقافة الاشتباك هي ثقافة كل ما لم تمثله الثقافة في لبنان
على الأرض، في ساحة الشهداء وسط بيروت، كتب أحدهم: "بدك تكون مثقف، بدك تكون مشتبك، ما بدك تشتبك، بلاك وبلا ثقافتك". ربما، لا مبالغة في القول أن هذه العبارة تشير إلى أن الثقافة قبل الثورة، ليست كما بعدها. إذ إنها، وقبل 17 تشرين الأول، كانت ثقافة النظام الساقط، أما، وإن بقيت كذلك من بعد هذا التاريخ، فهي لن تكون ثقافة، بحيث أن العكس يستلزم منها ان ترادف ممارسة بعينها، وهي الاشتباك.

في الحقيقة، ربط الثقافة بالاشتباك يولدها من جديد، مسترداً اياها من النظام، الذي جعلها ثقافة تقلع عنه، بما هو صراع. ففي إثر هذا الإقلاع، صارت مجرد مداهنة وخبث، بغيتهما الحفاظ على كل أمر واقع، أكان في وسط اختصاصييها، اي المثقفين، بما هم- وعذراً على الكلمة البذيئة- "مرجعيات"، بالإضافة الى أربائهم (جمع ربيب)، أو في خارجه. بالتالي، وبالقضاء على الصراع، تكرست الثقافة باعتبارها في خدمة النظام، أكان من خلال الخضوع لسُلُطاته مباشرةً، أو عبر مزاولة ما يسمى "نقدها" كطريق إلى التحلي بها، لا سيما بعد موتها، بحيث أن هذا "النقد" هو آخر ملجأ لها. فهذه الثقافة كانت "مشبوكة" بالنظام، لا طموح لها سوى أن تكون سلطة فيه، أن تعيش في صالونات أثريائه، أن تجذب برجوازيته، وأن تتشكل لهم، وأن يشكلوها، أكان عبر مؤسساتهم، أو عبر توجه أولادهم الفاشلين نحوها لتهريب امتيازاتهم إليها، أو لإعادة تدويرها فيها. ولهذا، نافل القول إنها كانت ثقافة ساقطة، بحيث أنها تتعلق بذلك النظام، تحاول الارتفاع إليه، الارتفاع بطبقته، وهذا، في حين أنه في الحضيض.

سقوط الثقافة؟ هذا لا يعني أنها تشتغل كثقافة مضادة، بل كمضادة لإمكان وجود أي ثقافة، إذ تشتغل كضرب من الـdésublimation، الذي لا يعطل التعالي سوى لجعل محايثتها مجرد وَهمٍ، يؤدي إلى تغذية ظلاميات من كل نوع، لأنه، فعلياً، منها.

هذه الثقافة الساقطة تشبك مع النظام، أما الثقافة الأخرى، فهي التي تشتبك معه، ليس من باب "نقدي"، إنما من باب التحرر منه، وخلال ذلك، تتشيد. الاشتباك يطابق الصراع بالمعنى السياسي الرحب، وليس الدسائسي الضيق. بعبارة أخرى، هو صراع على تحرير الثقافة من جعلها مرتعاً برجوازياً، ومستنقعاً مؤسساتياً، وبؤرة ذكورية، من جعلها محلاً لتكريس أي خطاب ظلامي، "مدني" وغيره، من جعلها إنتاج كلام للسلطات، أي القضاء على الكلام نفسه. وهنا، لا بد من ملاحظة، وهي أن الكلام، وحين ينطلق من تلك الثقافة، لا يعود كلاماً، يتيح التعبير والعبور، أو يحدث في السكوت على سبيل إطاحته، إنما يغدو خالياً من أثره، ومن وقعه، ليكون موضوع ترداد لاستئناف ما قبله.

وفي السياق عينه، أو ربما في أوله، ذلك الصراع، أو الاشتباك هو لكي لا تعود الثقافة مسكونة ببغية ان تكون سلطة من سلطات النظام، لكي تتفلت من هذه البغية، وعندها، تكون قدرة على "رؤية المشكلات"-حسبما يعرفها أحد الفلاسفة الالمان- وذلك، مثلما تحضر هذه المشكلات في النظام، وليس كما يطرحها هو.

الاشتباك يطلق كل الصراعات في الثقافة، ومن خلالها، لكي يحررها من النظام أولاً، وهذا، بالتوازي مع تحريرها منه. هكذا، تصير الثقافة حية، تضطلع بدورها، أو بالأحرى تضطلع بممارستها في معناها، بحيث تكون فعلاً ممارسة خلق، ومواجهة، وخوض انعتاقي. فقد أكدت ثورة 17 تشرين الأول المؤكد، وهو أن الثقافة لا علاقة لها بكل ما لا يمثله نظامها، بكل البلاد، بكل بروليتاريتها، وإن سعت إلى مد أي علاقة، فمن باب انتحالها والاحتماء بها.

ثقافة الاشتباك هي ثقافة كل ما لم تمثله الثقافة في لبنان، كل ما تنقيه أو تنفيه بادعاء تمثيله، وبادعاء "تبني" قضاياه. ثقافة الاشتباك هي ثقافة هؤلاء الذين لا يريدون "إيصال رسالة" إلى الناهبين، إلى نظامهم، لكي يلتفت إلى أوضاعهم و"يتكرم عليهم" مما سلبه من حيواتهم. فثقافة الاشتباك ليست، وكما هي الثقافة الساقطة في أقصى لحظاتها التثورية، اي الانتحالية والاحتمائية، وسيطاً بينهم وبين النظام، الذي تعمل كبوق على مسمعه. هي ليست وسيطه. إنما، ببساطة، هي سلاح في وجهه!