ينقصنا جهاز الكفتة

رشا الأطرش
الخميس   2019/10/10
الرئيس ميشال عون قبيل إلقاء كلمته في الجمعية العامة للأمم المتحدة (غيتي)
لا ينقصنا إلا "جهاز الكفتة". ذلك الذي "اخترعه"، قبل سنوات، لواء في القوات المسلحة المصرية، وروّج له النظام باعتباره خرقاً طبياً لعلاج حالات التهاب الكبد الوبائي والإيدز. ولا تنقصنا إلا أخبار من عيار ما أذاعته "الإخبارية السورية" عن تظاهرة حي الميدان في دمشق، ربيع 2011، بأن الناس خرجوا إلى الشوارع بعد صلاة الجمعة، للاحتفال بالمطر، هاتفين "الله أكبر" شكراً لله، كما توجب عادة دمشقية قديمة. 


فلبنان يبدو، هذه الأيام، سائراً على طريق المأساة/المهزلة حيث تتنزّه مصر الآن متأبطة ذراع عبد الفتاح السيسي. ولبنان منجذب بشدة، مؤخراً، لعلاجات الدولة الأسدية لمرضى الرأي والنقد والاحتجاج، سواء بالخيال الإخباري المضاد، أو بالاستدعاءات الأمنية والترهيب. فالسيسي والأسد لا يتأثر عشق شعبيهما لهما بشيء، بل يتعمّق وينتشر، ومن أجلهما ينزل الناس إلى الشوارع حباً وتأييداً، ونكاية بالخوَنة المعارضين. ومصر وسوريا بألف خير، اقتصادياً واجتماعياً، وتنتصران في حربهما على الإرهاب، وكل كلام غير ذلك هو مؤامرة وكذب وافتراء. وكما هي الحال دائماً، تقبع في قلب السلطة القامعة دوماً، بذرة كوميديا سوداء، لعل أبرز أبطالها المعروفين في تاريخنا الحديث "الأخ معمر القذافي".

أما "بَيّ الكل" في لبنان، فلديه أسباب جدية وعميقة للاحتفال. إذ انتزع، خلال حضوره الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، تصويتاً داعماً واهتمام منظمات دولية للمساهمة في تنفيذ مشروع عزيز على قلبه: "أكاديمية الإنسان للتلاقي والحوار"، لتشجيع الحوار بين الأديان والثقافات والإثنيات، "فهذا الأمر أصبح ملحّاً" على ما يقول وزير الدولة لشؤون رئاسة الجمهورية، سليم جريصاتي، "لا سيما في هذه المنطقة من العالم، حيث الصراع بلغ مستويات عالية جداً من العنف بحكم الإرهاب، وبحكم عدم احترام الرأي الآخر وعدم احترام الاختلاف، والقضاء على ما يسمى الحريات العامة بما فيها حرية التعبير". لكن "المسّ برئاسة الجمهورية" صار جُرماً يعاقب عليه القانون. وكذلك "المسّ بالهيبة المالية للدولة". الهيبة والكرامة، كلمتان سياسيتان في لبنان. وما يطاولهما ليس نقداً، ولا حرية تعبير، لا في الإعلام ولا في السوشال ميديا. هذه قلّة أدب. والأب، حين يرفع أحد أولاده صوته في حضوره، يثبّت بطن الواحد منهم على ركبتيه، ويُحسن تربيته، بكل حب. ولعل الله يحب اللبنانيين إذ لا تتوافر للعهد راهناً إمكانات السيسي والأسد، بحُكم صيغة النظام اللبناني المعروفة. لكنها هي نفسها الصيغة التي، بموجبها، تكون مؤسسات الرئاسات أطرافاً في صراع، بدلاً من أن تكون استيعابية له، مخففة من آثاره إن لم تتمكن من تفكيكه، في المحلي كما في الدولي. وهكذا، يُعدّ "التيار" الحاكم عدّته للاحتفال بذكرى 13 تشرين، "على أبواب بعبدا" وذوداً عن "كرامة الرئيس"، كما قال جبران باسيل، وتحديداً في منطقة الحدت، النموذجية في يخص الإنسان اللبناني وتلاقيه حواره مع الإنسان اللبناني الآخر، حيث يُمنع بيع أو تأجير العقارات لغير المسيحيين حرصاً على الديموغرافيا الغالية.

وذلك، في حين نفى القصر الرئاسي أي علاقة له بما أشيع عن دعوات لتظاهرات مؤيدة له وللعهد، في ظل أزمة الليرة والدولار. بل إنه، حين سئل عن الأزمة لدى عودته من نيويورك، أحال السائلين إلى حاكم مصرف لبنان ووزير المالية. هو فقط حشر الحاكم في زاوية المسؤولية، أن "إستَقِل" إن لم تكن قادراً على ضبط الوضع. ووعظ نقابة الصرافين التي زاره وفد منها، فقال لهم "حافظوا على مصلحة الوطن". فالخوف، كل الخوف، على مصلحة الوطن، ممن يكتبون نقداً أو حتى تجارب شخصية عن فقدان الدولار من السوق اللبنانية، في الإعلام أو الشبكات الاجتماعية. الخوف كل الخوف، مما تقرر الدولة أنه شائعات، مهما كان دقيقاً، ولا يهمّ دحضه بالشفافية وحقائق السوق. الخوف، من السوق السوداء، وضمائر الصرافين الذين يفسح لهم قانون مهنتهم التعامل مع العملات كسلعة وبحسب العرض والطلب، ولا مبرر للخوف من مسببات الأزمة، والتي ما زال المواطنون، منذ أسابيع، يسمعون عنها التكهنات و"التحليلات" دون المعلومات.

أما ما تكتبه مجلة عالمية، برصانة وعراقة الـ"إيكونوميست"، فهراء، بل إهانة طاولت الأرزة المنزلقة من العلم اللبناني. ولدينا محامون أكفّاء، ليس ما يشغلهم عن التقدّم بإخبار لمنع دخول المجلة إلى لبنان. فطبعاً، إذا لم يقرأ اللبنانيون الـ"إيكونوميست"، فهذا يعني أنها، وموضوع غلافها اللبناني، غير موجودة. ولتضحك علينا الصحافة العالمية، نحن لا يهمنا أحد، نحن كرتونة البرتقال النضر. نمدّ ألسنتنا أيضاً في وجه "مراسلون بلا حدود" حين يقولون لنا أن "تهمة المسّ بالرئيس بلا معنى".

قهقهي يا برتقالات لبنان الصامدة، فقد أثرتِ غيرة العالم. فمِن غيرتها أميركا، تصرّ على ألا يلتقي الوزير جبران باسيل، أو عمّه، رغم المحاولات والواسطات الحثيثة، أي مسؤول رفيع فيها. أصلاً ترامب مجنون، وصارت موضة قديمة أميركا و"تفنيصة" الدول الكبرى (ثم إن الأقليات على رؤوسهم ريش ولن يخسروا دلال الغرب، ولو مُني الغرام بجفاء عابر).

وها نحن نسدّد سبّاباتنا إلى صدوغنا ونقول أننا هكذا مسرورون، أهمّ من نلتقيهم على هامش الجمعية العامة للأم المتحدة، السيسي وروحاني وموظفين أمميين، وماكرون الأم الحنون لن يزعل طويلاً. وليضرب قادة العالم والمنطقة رؤوسهم بالحائط. فمثلهم مثل شامل روكز الذي يناكف "التيار"، ونجومه الجدد، باحتفال "13 تشرين" بديل في الضبية. وما همّنا إن صُنّفت الدولة اللبنانية في محاور دولية، ووقعت عليها عقوبات؟ نحن نحكم، وهذه مشكلتهم، وليست مشكلة "تفاهمنا". ثم إننا خرجنا من نيويورك، غصباً عن الجميع، مظفّرين بـ"أكاديمية الإنسان للتلاقي والحوار". وسنحتفل بكل إنجازاتنا وصحافتنا وثقافتنا والرئاسات المحققة والمشتهاة، منذ 13 تشرين الأول 1990، في الحدت.