"البيت الذهبي" لسلمان رشدي... الخير والشر معاً

المدن - ثقافة
السبت   2019/01/19
في يوم تنصيب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة، يظهر ملياردير غامض
في روايته الأخيرة "البيت الذهبي" ينقل سلمان رشدي قدراته الأدبية المشهورة إلى روح العصر الأميركية بأسلوب رائع رشيق.

ففي يوم تنصيب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة، يظهر ملياردير غامض جاء من شواطئ أجنبية ليقيم في بيت فخم يطلّ على حديقة مشتركة تسمى (الغاردنز) في حيّ الفيليج بمدينة نيويورك. فيرتاب سكان البيوت المجاورة من هذا القادم الجديد الغريب الأطوار مع أفراد عائلته. وبالإضافة إلى اسمه الغريب، ولكنته الغريبة، كان برفقة نيرو غولدن ثلاثة أبناء: بيتيا المدمن على الكحول المصاب بالتوحد وبرهاب الأماكن المفتوحة والعامة، المضطرب عقلياً؛ وآبوو، الفنان المتوهج، النهم جنسياً وروحياً؛ ودي، أصغر أبنائه الذي يحتفظ بسر خطير لا يريد الإفصاح عنه حتى لنفسه. ولم تكن ترافقهم أمّ، ولا زوجة، حتى ظهرت فاسيليسا، المهاجرة الروسية الجميلة التي أصبحت ملكة لذلك الملك، نيرو – ملكة تنتظر وريثاً.

أما دليلنا إلى عالم عائلة غولدن فهو جارهم، رينيه، المخرج السينمائي الطموح، الذي يعدّ فيلماً عن آل غولدن بعدما تسلل بمهارة إلى داخل بيتهم، واطلع على أعمق أسرارهم ومشاكلهم ومن ثم جرائمهم. وفي الوقت نفسه، مثل نكتة سمجة، يترشح شخص شرير للرئاسة الأمريكية فيقلب مدينة نيويورك رأساً على عقب.

إن رواية البيت الذهبي التي تضج بالأحداث السياسية والثقافية في أميركا، تشكل انتصاراً لعودة سلمان رشدي إلى الواقعية، التي أسفرت عن ملحمة عصرية مليئة بالحب والإرهاب، بالفقدان والتجديد – إنها رواية قوية وجريئة تمنح سلمان رشدي قوة ينير فيها عصرنا المظلم الجديد.
إنها ملحمة تطرح الأسئلة الأبدية عن البشر وأحوالهم: هل يمكن أن يكون المرء صالحاً وشريراً في وقت واحد. هل العائلة قدر؟ هل الماضي يلاحقنا باستمرار؟ في عصر الاستقطاب إلى التطرف، هل نستطيع إيجاد أرضية مشتركة؟ هل سيبقى الطغاة بيننا إلى الأبد؟ هل ستتعلم البشرية ذات يوم؟ هل تستطيع القصّة والفن تنويرنا؟ 

وعندما تصل حكاية سلمان رشدي إلى ذروتها، تنهض الحياة، كما هو دأبها، بعناد من بين الرماد، كما ينهض الحب"...

هنا مقتطف من الرواية التي نشرتْ حديثاً عن "دار الجمل"، بترجمة خالد الجبيلي، تنشره "المدن" بالاتفاق مع الناشر...


أعطني بنساً نحاسياً وسأحكي لك قصة ذهبية
- صيحة حكواتي على قارعة الطريق في روما القديمة، ذكرها بليني

في جوهره، فإن عصرنا عصر مأساوي، لذلك، فإننا نرفض أن نقبل أنه عصر مأساوي. لقد حلّت الكارثة، وها نحن في وسط الأنقاض، وبدأنا نبني موئلاً صغيراً جديداً، حتى تبزغ أمامنا آمال قليلة جديدة. إنه عمل شاق: فلم يعد هناك طريق ممهد يفضي إلى المستقبل: إننا نطوف الشوارع، أو نتدافع لاجتياز العوائق. علينا أن نعيش، مهما بلغ عدد السماوات التي سقطت.
- د. ه. لورنس، عشيق الليدي تشارلي

الحياة أكثر غموضاً منا بكثير.
- فرانسوا تروفو

1
في يوم تنصيب الرئيس الجديد، عندما تملكّنا القلق بأنّ الرئيس الجديد قد يُغتال وهو يسير، عاقداً يده ببيد زوجته الرائعة في وسط الحشود المبتهجة، وعندما كنا على وشك أن نشهد دماراً اقتصادياً بعد انفجار فقاعة القروض العقارية، وعندما كانت إيزيس (Isis) لا تزال الإلهة الأمّ المصرية، وصل إلى مدينة نيويورك ملك غير متوّج يزيد عمره على السبعين عاماً من بلد بعيد مع ثلاثة أبناء لا أمّ لهم، ليضع يده على القصر الذي سيمكث فيه هو وأبناؤه في منفاه، ويتصرّف كما أن البلد الذي جاء إليه بل حتى العالم لا توجد فيه أي مشكلة، أو كما لو أنه لا توجد مشكلة في قصّته هو نفسه. وبدأ يحكم الحيّ الذي يقيم فيه مثل إمبراطور مطبوع على حبّ الخير، مع أنه، على الرغم من ابتسامته الخلابة وقدرته على العزف على كمان غوادانيني 1745، كانت تفوح منه رائحة رخيصة ثقيلة، تلك الرائحة التي تشي بقدوم خطر طاغية بليد، تلك الرائحة التي تحذّرنا وتقول لنا: احذروا هذا الرجل لأنه قادر على أن يأمر بإعدامكم جميعاً في أيّ لحظة إذا كنتم ترتدون قمصاناً لا تروق له، مثلاً، أو إذا أراد أن ينام مع زوجاتكم. وستكون السنوات الثماني القادمة، سنوات رئيس البلاد الرابع والأربعين، أيضاً سنوات حكم غريبة الأطوار ومخيفة لنا للرجل الذي أطلق على نفسه اسم نيرو غولدن، الذي لم يكن ملكاً حقاً، والذي سيندلع في نهاية حياته حريق كبير – من الناحيتين التنبؤية والمجازية.

كان الرجل العجوز قصير القامة، بل يمكن القول مربوع القامة، يمشّط شعره الذي لا يزال معظمه داكناً بالرغم من تقدّمه في السنّ، إلى الوراء ليؤكد على ذروة شيطانه. وكانت عيناه السوداوان ثاقبتين، إلا أن أول ما يلاحظه الناس – كان يشمّر كمّي قميصه في غالب الأحيان ليتأكد من أنهم لاحظوا — ساعديه الغليظتين القويتين مثل ذراعي مصارع، ينتهيان إلى يدين خطيرتين ضخمتين تزدان أصابعهما بخواتم ذهبية كبيرة مرصّعة بالزمرّد. ولم يسمعه سوى القليل من الأشخاص يرفع صوته، مع أنه لا يساورنا أدنى شكّ بأنه تقبع في داخله قوة صوتية هائلة يُفضّل عدم استثارتها. وكان يرتدي ثياباً غالية الثمن، لكنها تشي بنزعة حيوانية عالية تحدو المرء لأن يتذكّر الوحش في القصص الشعبية الذي لا يشعر بالارتياح بالملابس البشرية الجميلة. أما نحن جيرانه، فقد اعترانا كلنا خوف منه، مع أنه بذل جهوداً خرقاء، حمقاء، هائلة لكي يبدو شخصاً اجتماعياً ودوداً. وكان يلوّح بعكازه باتجاهنا بعنف، ويصرّ، في أوقات غير مناسبة على دعوة أشخاص لمشاركته في تناول كأس من الكوكتيل. وعندما يقف أو يمشي، كان ينحني إلى الأمام ، كما لو أنه يبذل جهداً كبيراً ليصدّ ريحاً عاتية لا يشعر بها أحد إلاّ هو، فينحني قليلاً من عند الخصر، لكن ليس انحناء كثيراً. كان رجلاً قوياً، لا بل أكثر من ذلك - رجلاً يعشق فكرة أنه قويّ. ويبدو أن استخدامه للعكاز كان للزينة أكثر مما هو بحاجة إليها. وعندما كان يتمشى في الحديقة المشتركة التي سنطلق عليها اسم "الغاردنز" كان يحاول أن يعطينا الانطباع بأنه يحاول أن يكون صديقاً لنا. وفي كثير من الأحيان، كان يربّت على ظهور كلابنا أو يداعب شعر أطفالنا. لكن الأطفال والكلاب كانوا يتراجعون إلى الوراء مجفلين من لمسته. وعندما كنت أراقبه، كنت أتذكّر كثيراً وحش الدكتور فرانكشتاين الذي كان في هيئة إنسان لكنه لم يستطع قط أن يبدي أيّ مشاعر إنسانية حقيقية. وكان لون بشرته يشبه لون جلد بني، وتلمع ابتسامته بحشوات ذهبية. كان حضوره خشناً، فظاً ولم يكن رجلاً متحضراً تماماً، لكن ما يشفع له هو أنه كان فاحش الغنى، ولذلك، من الطبيعي أن يجد قبولاً من الآخرين. أما في أوساط الفنانين والموسيقيين والكتّاب في وسط المدينة، فكان الجميع يمقتونه.

كان ينبغي لنا أن نخمّن بأنّ رجلاً أطلق على نفسه اسم آخر ملوك سلالة جوليو كلاوديان في روما، ثمّ نصّب نفسه في دوموس أورا (البيت الذهبي) مُقِرّاً بجنونه علناً، ومعترفاً بجنوحه وشعوره بجنون العظمة، ومصيره المحتوم الوشيك، وكان يضحك أيضاً في وجه كلّ ذلك. رجل يلقي بقفازه عند قدمي القدر وينقر بأصابعه تحت أنف الموت القادم، وهو يصيح "نعم! قارني إذا أردت بذلك الوحش الذي غطس المسيحيين في الزيت وأضرم النار فيهم لينير حديقته في الليل! والذي بدأ يعزف على القيثارة وروما تحترق (في الواقع لم تكن توجد آلة كمان في ذلك العصر) نعم: ها أنا أعمّد نفسي نيرو، من بيت قيصر، آخر تلك السلالة الدموية، واصنعوا منها ما تشاؤون، فأنا أحبّ هذا الاسم". كان يلوح بشرّه تحت أنوفنا، مبتهجاً به، يتحدّانا على أن نراه، ويحتقر قدرتنا على فهمه وإدراكه، قانعاً بقدرته على إلحاق الهزيمة بأي شخص قد يقف في وجهه أو يعارضه بسهولة كبيرة.

جاء إلى المدينة مثل واحد من أولئك الملوك الأوروبيين الذين سقطوا، أرباب بيوت لم يعد لهم وجود لا تزال تُستخدم أسماؤهم كألقاب تحمل عبارات تعظيم طنانة في اليونان أو في يوغسلافيا أو في إيطاليا، واعتبروا البادئة الحزينة، سابقاً، كما لو أنها لم تكن موجودة. فلم يكن هناك شيء في الماضي، ويشي سلوكه بأنه رجل مهيب في كلّ شيء: في قمصانه ذات الياقات المنشّاة، وأزرار أكمامه، وأحذيته الإنكليزية المفصلّة حسب الطلب، وأسلوبه في السير عندما يتجه إلى الأبواب المغلقة بلا تباطؤ، عارفاً أنهم سيفتحون له تلك الأبواب، وفي طبيعته المرتابة، التي يعقد بسببها اجتماعات منفصلة كلّ يوم مع أبنائه ليستفسر منهم ماذا يقول إخوتهم عنه؛ وسياراته، وحبّه لمناضد لعب القمار، وضربته التي لا يمكن صدّها في كرة الطاولة، وولعه بالعاهرات، وبالويسكي، وبالبيض المتبّل بالفلفل الحار، وترديده كثيراً للقول المأثور – شخص يفضّل الحكّام المستبدين بدءاً من القيصر وحتى هيلاسيلاسي - وأن القيمة الوحيدة الجديرة بالاهتمام هي الولاء. وكان يغيّر رقم هاتفه الخليوي كثيراً، ولا يكاد يعطي رقمه لأحد، ولا يردّ على هاتفه عندما يرنّ. ولم يكن يسمح للصحفيين أو المصورين دخول عتبة بيته. لكن كان يوجد معه غالباً رجلان عندما يلعب البوكر، زيرا نساء شعرهما فضّي اللون، ويرتديان عادة سترات من الجلد المدبوغ، ويضعان ربطات عنق عليها خطوط براقة، يساور الكثيرين شكّ بأنهما قتلا زوجتيهما الثريتين، على الرغم من أنه لم توجّه لأحدهما تهمة، ولم يتم إثبات التهمة للشخص الثاني.

أما بالنسبة إلى زوجته غير الموجودة، فقد لاذ بالصمت. ففي بيته المليء بالصور، الذي تحتشد جدرانه ورفوف مواقده بصور نجوم الروك، والفائزين بجائزة نوبل، والأرستقراطيين، لا توجد صورة واحدة للسيدة غولدن، أو مهما كانت تُدعى. لا بد أن هناك شعوراً بالعار، ولخجلنا، كنّا نثرثر عمّا يمكن أن يكون الأمر، نتخيّل حجم خياناتها ومقدار صفاقتها، نتصوّرها امرأة شهوانية من الطراز الرفيع، عاشت حياة جنسية صارخة أكثر من أيّ نجمة سينمائية، يعرف الجميع مقدار شبقها إلاّ زوجها الذي ظلت عيناه اللتان أعماهما الحبّ تحدّقان بها بإعجاب، بينما كان يعتقد بأنها زوجة أحلامه المحبّة والعفيفة، إلى أن حلّ ذلك اليوم الفظيع الذي أخبره فيه أصدقاؤه الحقيقة، أصدقاؤه الذين توافدوا بأعداد غفيرة ليخبروه بحقيقة الأمر، وكيف أنه استشاط غضباً، وكيف أنه أهانهم ووبخهم، وقال إنهم كذابون وخونة، وتطلّب الأمر أن يمسك به سبعة رجال حتى لا يضرب الذين أرغموه على مواجهة الحقيقة التي اضطر إلى مواجهتها أخيراً، وتقبّلها، فأخرجها من حياته، وحرمها، منذ ذلك الحين، من أن تلقي حتى نظرة واحدة على ابنيها. امرأة شرّيرة خبيثة، قال أحدنا للآخر، نحن الذين نظّن أننا أشخاص محنكون، خبراء في شؤون الحياة، وجعلتنا هذه القصّة نشعر بالرضا، فركنّاها جانباً، وانهمكنا في همومنا أكثر، ولم نعد نبدي اهتماماً إلاّ بأمور ن. ج. غولدن، حتى نقطة محددة. وهكذا ابتعدنا، وانشغلنا في أمور حياتنا الشخصية.
لكن كم كنا مخطئين.