حفلة شاي في بكركي

رشا الأطرش
الخميس   2019/01/17
بدا لبنان، خلال الأسابيع القليلة الماضية، في واحدة من أكثر صُوره النمطية صدقاً. لبنان الذي يشبه نفسه، من دون اللمسات التجميلية التي كان لبعض العقلاء التمسك بها، ولو من حيث الشكل الذي قُد يُبنى عليه مضمون ما في يوم من الأيام بالقدر الذي تسمح به التركيبة المحلية.

فمِن اجتماع المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، إلى لقاء بكركي، واليوم اجتماع الهيئة العامة للمجلس المذهبي الدرزي، وتواتر اللقاءات السنية لحل عقدة التمثيل في الحكومة المستعصية... يتابع اللبنانيون حصيلة "القمم" الطائفية وكواليسها لاستنباط ملامح غَدِهم القريب. وذلك، في ظل أزمات إقليمية ودولية ضاغطة، لا سيما ملف العقوبات على إيران، وما سترسو عليه الحرب السورية من مناطق نفوذ وتجاذبات، بالإضافة إلى التطبيع مع النظام السوري ورئيسه بشار الأسد.

اللوحة طبيعية في السياق اللبناني ونظامه الطائفي. معتادة، ومتوقعة، لا يستغربها أحد، رغم بشاعتها. ومع ذلك، لا تعجز الحياة السياسية اللبنانية عن تقديم جديدٍ ما. والجديد، هذه المرة، أتى من بكركي. فلطالما تمايز المسيحيون، والموارنة، عن بقية الطوائف اللبنانية، بحيوية سياسية ما، بتعددية خطابية ضمن الخطاب المسيحي، وبتنوع انتماءاتهم وتحالفاتهم بما لا يحصر زعامة الطائفة في شخص أو حزب كما هو الحال لدى السنّة والشيعة والدروز. غير أن لقاء بكركي الأخير بدا مسرحاً لصراع دِيكة أكثر احتداماً من أي وقت مضى، لا سيما منذ انسحاب القوات السورية من لبنان.

ولا مفرّ من الملاحظة بأن المعارك المسيحية – المسيحية اليوم هي نتاج تمدد "التيار الوطني الحر" في السلطة، إن كان في حيازة رئاسة الجمهورية، أو في ضخّ هرمونات النمو في تكتلاته النيابية والوزارية. ومن نافل القول إن شعارات من نوع "رئيس لكل اللبنانيين"، و"لبنان القوي"، وتحصيل حقوق المسيحيين، وتحصين موقع الطائفة بتحالفات داخلية.. ما عادت سوى رافعات لجهد حثيث – وناجح للأسف – من أجل استحواذ "التيار" على أكبر قدر ممكن من الحصة المسيحية في الدولة اللبنانية ومؤسساتها، مع ما تيسّر من صفقات تبرم مع سائر الطوائف وفقاً لحسابات الدكانجية. فعبارة المسيحيين وحقوقهم، باتت تعني العونيين وطموحاتهم.

وما بدا، ذات يوم، دلائل دينامية وتنوع مسيحيَين، رغم كل الأمراض اللبنانية والمذهبية المعروفة، تحوّل أخيراً إلى كباش مسيحي-مسيحي يخوضه العونيون بشراسة، وهم الذين ربما يرون في تجربة بشار الأسد و"صموده" و"انتصاره" قدوة وإلهاماً. ولعل المثير للاهتمام أن الأداء هذا لم يأت من الحلفاء التقليديين للأسد، من مثال سليمان فرنجية الذي كانت مداخلته الأكثر شفافية وصراحة، لا سيما حين قالها ببساطة: لن ندعم الثلث المعطل لرئيس الجمهورية ليستخدمه ضد بقية المسيحيين. فالخوف، إذاً، من الرئيس ميشال عون وصهره وبوتقته، وليس الخوف على موقع الرئاسة... حتى بين فرنجية وعون باعتبارهما، تقريباً، في خندق سياسي واحد في ما يتعلق بالعلاقة مع "حزب الله" والموقف من النظام السوري. لكن الخنادق ضمن الطائفة المارونية شيء آخر، عمّقها الصعود العوني في الحياة السياسية اللبنانية ومناصبها، وهو الصعود الذي أفشل التحالف مع "القوات اللبنانية"، وجذّر الهوة مع "الكتائب"، وحرق الجسور مع سائر الشخصيات المارونية والمسيحية الوازنة.

ويبقى ما هو أخطر. فمنذ أن رسا الكيان اللبناني على ما هو عليه، بصالحه وطالحه، لطالما تمسك المسيحيون بالدولة والدستور والمؤسسات. وتلك هي الحركية الطبيعية لأقلية في نظام طائفي، سواء تحدثنا عن مرحلة ما قبل الحرب الأهلية و"الوطن" الذي دُبّج لها كجزيرة خضراء في بحر المسلمين، أو عن مرحلة ما بعد اتفاق الطائف الذي كرّس انتصار أمراء الحرب المسلمين على نظرائهم المسيحيين لكنه قدّم الحكم مناصفةً كجائزة ترضية لا بديل من التمسك بها إلا الفناء. أما اللافت للانتباه اليوم، فهو تحوُّل الكلام عن الدولة والدستور والمؤسسات، من مطلب سياسي وثقافي مُعبّر عن الطوائف المسيحية، وخطة عمل سياسي، إلى رطانة، بل جدار دخاني لسَتر الإشكالية المسيحية الحقيقية، أي الجوع العوني المزمن للهيمنة.

وهذا بالضبط ما كانته لغة البيان الختامي للقاء بكركي: مساعدة الشباب المسيحي على الانخراط في مؤسسات الدولة، التمسك بالدستور، لبنان الرسالة، عودة النازحين السوريين ومكافحة توطين الفلسطينيين، الإسراع في تشكيل الحكومة، التصدي للفساد والفقر، شجب الانتهاكات الإسرائيلية، دعم الجيش والقوى الأمنية.. لغة كرتونية من وحي "الثوابت"، مجرد ستار للاشيء الذي تمخضت عنه حفلة الشاي في ضيافة البطريرك.