إينغه فيلترينيللي: عالَم الكتب يودّع ملكته

نزار آغري
الثلاثاء   2018/09/25
مع همنغواي
كان يوم الخميس 20 أيلول/سبتمبر2018، يوماً تاريخياً في الفضاء الثقافي والأدبي والإعلامي الإيطالي. لقد توفيت أهم امرأة في تاريخ دور النشر والمكتبات هناك: إينغه فيلترينيللي.

صدرت الصحف الإيطالية في ذلك اليوم وقد ملأت صفحاتها الثقافية بالنبأ الحزين. كتبت صحيفة كورييري ديللا سيرا:
Morta Inge Feltrinelli, regina dell’editoria.
(ماتت إينغه فيلترينيللي، ملكة دور النشر)
وكتبت لا ستامبا:
Addio a Inge Feltrinelli, ultima regina dell’editoria
(وداعاً إينغه فيلترينيللي، آخر ملكات دور النشر).
وواكبت الصحف الأوروبية الكبرى، مثل الغارديان ولوموند وليبراسيون وسواها، نبأ رحيل فيلترينيللي عن كثب. كتبت الباييس الإسبانية:
Muere la editora Inge Feltrinelli, la señora de los libros.
(ماتت الناشرة إينغه فيلترينيللي، سيدة الكتب).

فمن هي إينغه فيلترينيللي؟
ولدت العام 1930 لأب يهودي وأمّ مسيحية في إيسن بألمانيا. كان عمرها سنتين حين تسلّم هتلر السلطة. هرب والدها واختبأ في هولندا وبقيت هي عند أمها، وانتقلتا معاً إلى مدينة غوتنغن، عرين الطباعة والكتب.

كان يمكن لمصيرها أن يكون مشابهاً لمصير آن فرانك، الفتاة اليهودية الهولندية التي اختبأت في بيت جارها، لكن البوليس النازي تمكن من كشف أمرها فاعتقلت وأرسلت إلى أوشفيتز لتلقى حتفها. القدَر ساعد إينغه، التي كانت من جيل آن. نجَت، وكبرت لتصبح مديرة لأكبر دار نشر في أوروبا. في مقابلة مع كورييري ديلاسيرا قالت: "أتذكر رائحة البيوت المحترقة في ليلة الكريستال"، أي تلك الليلة التي جرى فيه الهجوم على المحلات اليهودية وظلت أصوات تكسر الزجاج تُسمع طوال الليل. كان ذلك في 9 تشرين الثاني/نوفمبر1938، فنُهبت المحلات والبيوت وقتل ما يقرب من مئة يهودي. في العام 1950، انتقلت إينغه من غوتنغن إلى هامبورغ، والتحقت بالمصوّرة الصحافية روزماري بيار. ثم انضمت إلى مجلة "غونستانز"، التي أرسلتها إلى إسبانيا في مهمة صحافية. بعد ذلك التحقت بمجلة "دير شبيغل"، وسافرت إلى الولايات المتحدة لإعداد تقرير مصور. في نيويورك التقطت صورة، بالصدفة، لغريتا غاربو، ودفعت لها مجلة "لايف" خمسين دولاراً (وكان المبلغ يُعدّ ثروة في تلك الأيام).

في العام 1953، طلب منها رئيس دار "روهولت" للنشر أن تذهب إلى كوبا لمقابلة أرنست همنغواي. كانت الدار تحاول الوصول إليه، لكن بلا جدوى. ذهبت إلى هافانا واتصلت به. رد عليها شخصياً. قال لها: "تعالي إلى الغداء. سأرسل سائقي ليأخذك. لا تنسي أن تجلبي معك لباس السباحة". بقيت معه، في بيته، إسبوعين. كان همنغواي في الرابعة والخمسين من العمر آنذاك. كتبت في يومياتها: "لديه خمسة خدَم وسائق وثلاثين قطة. يستيقظ في السادسة ويكتب حتى الحادية عشرة، ثم يكرع ثلاث زجاجات مارتيني دفعة واحدة".



في أمسية أقامتها دار النشر "روهولت" في هامبورغ، في تموز/يوليو1958، التقت بمثقف يساري إيطالي إسمه جانجاكومو. بقيا يتحدثان الليل كله. "كان يجلس وحيداً، منطوياً على ذاته، يفكر بعمق. تحدثنا طوال الليل حتى الفجر، ونحن نشرب الكأس تلو الآخر. كان لطيفاً وخجولاً، يتحدث بصوت عال كي يتغلب على خجله". جمعتهما الأفكار والهواجس والأحلام نفسها. كانا يساريين يطمحان إلى تغيير العالم ليصبح مكاناً يشبه الجنة: الناس كلهم متحابون، يفرحون، يغنون، يرقصون، يلونون الكون بالرسوم والضحكات ويكتبون الروايات والأشعار.

انتقلت إينغه للعيش مع جانجاكومو في ميلانو، ثم سافرا إلى المكسيك وعقدا قرانهما هناك في شباط/فبراير1959. "بعد زواجنا، صرنا نحتفل بعيد الثورة الفرنسية، لأنه اليوم الذي تعرفنا فيه على بعضنا البعض".

كان جانجاكومو برجوازياً ثرياً، ومثقفاً ذكياً، وكانت الأفكار الماركسية قد استحوذت على كيانه بالكامل. كان يشبه الفرنسي ريجيس دوبريه، المثقف اليساري الثري. مثله، كان شغوفاً بثورات المستعمرات والبلدان الفقيرة في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. كان ينتمي إلى واحدة من أغنى عائلات إيطاليا، إن لم تكن أغناها على الإطلاق، وحين مات والده ورث ثروة هائلة.
أسس جانجاكومو دار النشر تحت اسم "منشورات جانجاكومو فيلترينيللي"، وسرعان ما كرسها لنشر المؤلفات الثورية. كان يريد أن يغير العالم بالأفكار والكتب. نشر لكاسترو وغيفارا وهوشي مينه وغرامشي، إلى جانب كلاسيكيات الفكر الماركسي. كان أول من نشر رواية "دكتور زيفاكو" لبوريس باسترناك في أوروبا. كانت السلطات السوفياتية قد منعت الرواية، لكن جانجاكومو تمكن من تهريبها وترجمتها وبقيت لسنوات أكثر الكتب مبيعاً في الدار.

سافر الإثنان، إينغه وجانجاكومو، إلى كوبا لمقابلة فيديل كاسترو كي يقنعاه بنشر مذكراته. خصص لهما كاسترو قصراً كانت الحكومة قد صادرته من أحد الملاكين الكبار. بقيا هناك ثلاثة أسابيع، قضياها في النقاشات والإستماع إلى أفكار كاسترو. وجد كاسترو راحة كبيرة في التحدث إليهما، وأحب جانجاكومو كثيراً، فكانا يلعبان كرة السلة. "كان كاسترو يتمتع بكاريزما قوية، لكنه كان مضطرباً فكرياً. يرتدي البذلة العسكرية طوال الوقت، حتى عندما يلعب الكرة مع جانجاكومو. وكان يتحدث من دون توقف كأنه شلال متدفق من الماء"، بحسب إينغه.

بدأ جانجاكومي ينجرف شيئاً شيئاً نحو التطرف، وقرر أخيراً أن الكتب لا تغير العالم، وأن المطلوب هو العنف الثوري، وأسس مجموعة ثورية بإسم "مجموعة الأنصار" للقيام بالعمل العسكري.

عارضت إينغه ذلك، وحاولت أن تقنعه بالعدول عن هذا السلوك. أصرّت على أن الكتب والأفكار تستطيع أن تغير العالم. لم يقتنع. نقل ملكية دار النشر إليها، وسلّمها كل شيء، واقتنى هوية مزورة واختفى. بدأ العمل السري.

بعد سنتين، لقي حتفه في عملية غريبة وغامضة: "كنا قد اتفقنا أن يأتي إلى لوغانو سراً، كي يراني ويرى إبنه كارلو. لم يأت. تملكني الخوف. رجعت إلى البيت. في اليوم التالي قرأت خبر موته في الصحف. لم يذكروا شيئاً عن إسم القتيل، لكني عرفت أنه هو". قيل إنه كان يحمل كمية كبيرة من المتفجرات لتدمير محطة إذاعية حكومية، لكن العبوة انفجرت فيه.

لم تصدق إينغه ذلك. كانت مقتنعة بأنه تعرض لعملية تصفية، لكنها لم تملك دليلاً. في يوم دفن جانجاكومي، حضر الجنازة 80 ألف شخص. وكان هناك حشد هائل من رجال الشرطة، وفي السماء حلقت طائرات هليكوبتر. كان الحشد يهتف: سننتقم لك يا رفيق جانجاكومي.

وقبل موته، كتب جانجاكومي رسالة تهنئة إلى إبنه كارلو بعيد ميلاده الثامن. في الرسالة راح يشرح للطفل الصغير الصراع الطبقي بين الأغنياء والفقراء. كان المناضل قد تخلى عن أمه وأهله. تنصل منهم لأنهم "برجوازيون تافهون". وحين مات قالت أمه: "أخيراً تخلصت من العذاب". كان جانجاكومي لطخة لتاريخ العائلة في رأيها.

هناك من يقول إن جهاز "الموساد" قتله لأنه كان يدعم منظمة التحرير الفلسطينية ويمدّ ياسر عرفات بالمال. آخرون يقولون إن الحكومة الإيطالية قتلته. البعض يقول إن المخابرات الأميركية قتلته لدعمه الثوار في أميركا اللاتينية.

عرش مملكة النشر
ورثت إينغه عن زوجها ثروة هائلة، وكنية مرموقة، إضافة إلى مهنة رائعة وجدت فيها كل ما تصبو إليه نفسها. كانت الدار متعة حياتها، حيث تجد سعادة هائلة في أن تكون مع كل شيء له علاقة بالكتب. وكان أقرب الناس إليها، الكتّاب والصحافيين. كانت مليئة بحب الحياة وعشق الألوان والموسيقى والرقص والسفر والمغامرة. على مدى ما يقارب خمسين عاماً، بقيت على رأس أهم  دار نشر إيطالية، وربما عالمية. تعاملت مع الكتب كأنها كائنات ذات روح وقوام وجمال وذوق وسيرة حياة.
أرادت أن تخلق عالماً يشبه المكتبة، منظوراً إليها، أي المكتبة، من زاوية أخرى غير تلك التي نظر بها إليها خورخي لويس بورخيس. العالم ـ المكتبة، في منظور إينغه، هو كون فسيح، يمتد إلى الأفق، مفتوح على المدى، لا جدران أو فواصل بين أقسامه، متسامح، تعددي، وإلى حد ما، ثوري (لكن ليس إلى الحد الذي بلغه زوجها).
رفعت شعاراً ظلت تردده على الدوام:
I libri sono tutto. i libri sono la vita.
(الكتب هي كل شيء، الكتب هي الحياة).
أقامت علاقات قوية مع الكتّاب المهمين حول العالم. كانت صديقة لمارغريت دوراس، ودوراس ليسينغ، وإيزابيل الليندي.
ودوّنت انطباعاتها عن الكتّاب والفنانين الذين التقت بهم على هذا النحو:
غارسيا ماركيز:  كان شاباً كولومبياً طموحاً. يأتي ليقيم في الفنادق الرخيصة. حصوله على نوبل غيّره كثيراً. التقيت به عند كاسترو. هو الذي أقنع كاسترو بقراءة الروايات. كان كاسترو معجباً به كثيراً.

غونتر غراس: صدمتني مذكراته، لكنها لم تدفعني إلى التخلي عن صداقته.
بابلو بيكاسو: كان شيطاناً غامضاً، وله عينان ثاقبتان. قطن مع زوجته جاكلين في فيلا بالقرب من مدينة "كان"، وكانت جاكلين تعشقه بجنون، وحين مات لم تتحمل فراقه، فانتحرت.
مارك شاغال: ملاك. عجوز يهودي مسكين. يستعمل الألوان كما لو أنه يعزف.
سيمون دو بوفوار: بالنسبة اليّ كانت مثل مريم العذراء. التقيت بها لدى عودتها من رحلة إلى الصين، وكانت تتحدث بحماسة عن ماو تسي تونغ.

وقالت عن المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، أنها امرأة ألمانية نموذجية: "هي سيدة العالم الآن. أحببتها حين وقفت في وجه أردوغان الذي اتهم الألمان بالعنصرية، هو الذي يقتل الأكراد كل يوم".

كان يشدها تعاطف كبير مع أولريكه ماينهوف، التي مارست الإرهاب مع منظمة "بادر ماينهوف" المتطرفة: "لو أن أولريكه ماينهوف عملت في دير شبيغل لما صارت إرهابية. كانت مفكرة من طراز سيمون دو بوفوار. المجلة رفضتها. ربما أصبحت إرهابية انتقاماً من ذلك الرفض".
كانت إينغه تقيم صالوناً أدبياً في بيتها، دعت إليه أكبر الكتّاب من حول العالم: "ذات يوم جاء بيتر هاندكه بشعره الطويل، الوسخ، فسارعت لأخذه إلى الحمام وقالت له: هناك الشامبو".
ساهمت خلال عقود طويلة في تعريف العالم بأكبر مبدعي إيطاليا: ألبرتو مورافيا، تشيزاري بافيزي، جوزيه دي لامبيدوزا، أمبرتو إيكو، إيتالو كالفينو، أري دي لوكا، أليساندرو باريكو، وسواهم.
في اتصال مع صحيفة "كورييري ديلا سيرا"، كتبت إيزابيل الليندي: "عزيزتي إينغه، كم كنت أحب أن أكتب سيرة حياتك". كانت إينغه نشرت ترجمة لأولى روايات إيزابيل اللندي، "بيت الأشباح"، العام 1983.
أقامت بلدية ميلانو حفلة تأبين لها. اجتمع الكتّاب والصحافيون والساسة والأقارب في دار البلدية لنظرة أخيرة وتحية الوداع. قال وزير الثقافة الإيطالي ألبرتو بونيسولي: "كانت مرجعاً أساسياً في عالم النشر حول العالم".

وضعت "دار فيلترينيللي للنشر"، أمام دار البلدية، صورة كبيرة لإينغه بزيها الأنيق وابتسامتها التي لم تفارق شفتيها. وكتبت أعلى الصورة شعارها:
I libri sono tutto. i libri sono la vita.
الكتب هي كل شيء، الكتب هي الحياة.
وفي أسفل الصورة كتب: سنواصل طريقها، هذا وعد.