جميل راتب بين ضفّتين

محمود الزيباوي
الجمعة   2018/09/21
أنهى جميل راتب مسيرته الفنية في الفيلم المجري، "أمس"
في مطلع العام 1952، تحت عنوان "مصري في الكوميدي الفرانسيز"، نشرت مجلة "الكواكب" ثلاث صور لجميل راتب، وقالت في تعريفها به: "هو شاب من أسرة فرنسية عريقة، يتكلم اللغة الفرنسية كما يتكلّمها الفرنسيون. حاول أن يعمل بالسينما المصرية، فأُسند إليه دور ثانوي في فيلم "العرسان الثلاثة" جعله يثق بأن مستقبله ليس في هذا اللون، فهاجر إلى فرنسا ودرس التمثيل المسرحي، ثم التحق بفرقة الكوميدي فرانسيز فأصبح من أعمدتها".

في 12 تشرين الأول/أكتوبر 1954، عادت المجلة ونشرت صورة جديدة للممثل المصري التُقطت في مناسبة اجتماعية، وكتبت في تعليقها: "أقام الدكتور محمد سليمان قنصل مصر السابق في باريس حفلة شاي للتعارف بين النجم المصري جميل راتب، أحد دعائم فريق الكوميدي فرانسيز وبعض الفنيين والممثلين والصحافيين بمناسبة حضوره إلى مصر للاشتراك في تمثيل فيلم مصري، وتشترك معه في بطولة هذا الفيلم النجمة كلود غودار، ويُرى في الصورة الوجه الجديد علياء بسيم". كلود غودار ممثلة فرنسية ظهرت على الشاشة للمرة الأولى في 1954، وغابت عنها في 1954 بعد أن مثلت في اثني عشر فيلماً لم يدخل أيٌّ منها تاريخ السينما، والأرجح أن الفيلم الذي تحدثت عنه "الكواكب" لم يُبصر النور.
بعد أسبوعين، نشرت المجلة مقالة من توقيع جميل راتب حملت عنوان "قصص من حياتي"، وقالت في تقديمها لهذه المذكرات: "عاد الفنان المصري الشاب الذي يعمل بمسارح باريس إلى مصر ليشارك في أحد الأفلام التي تُصوَّر بها، وهو هنا يروي لنا بعض قصص حياته". استهل الممثل كلامه بالحديث عن بداية مشواره، وقال: "إن المستقبل الذي رسمته لنفسي شيء آخر غير الذي رسمته لي أسرتي، فقد كان كلّ أمنية أسرتي أن أكون محامياً، لكني كنت أحسّ أنني لا أستطيع أن أعيش بعيداً من الفن الذي أجد نفسي معلّقة به في كل ساعة من ساعات حياتي. ولهذا لم يكن غريباً ان أفشل في دراسة الحقوق في مصر، وأن اقترح عليهم السفر إلى باريس حيث أجد الفن الذي يشغلني عن استذكار دروسي للقانون. وحين وصلت إلى باريس، التحقت بأحد المعاهد الفنية، وأوهمتُ أهلي أنني في كلية الحقوق التي اختاروها لي، وكنت في نهاية كل عام أبرق لهم بنبأ نجاحي، وكان النجاح حليفي فعلاً ولكنه نجاح في التمثيل لا في القانون. إلى أن تخرجتُ في ذلك المعهد بعد ثلاث سنوات ونلت الجائزة الأولى سنة 1949".

في العام التالي، دخل جميل راتب فرقة "الكوميدي فرانسير"، وشارك في مسرحيات عديدة كما يقول، منها "العطلة عند العمال"، وهي في الأصل مسرحية أميركية "تعارض فكرة الإضراب"، وتعتبرها "وسيلة غير مشروعة لنيل الحقوق"، وقد عمدت الفرقة إلى تقديمها يوم كانت الإضرابات العمالية تعمّ باريس. في ليلة العرض الأول، علا هتاف الجمهور كالرعد مطالباً بسقوط هذه المسرحية، ثم بدأ المتفرجون بتحطيم المقاعد، فلاذ فريق العمل بالفرار، وتبيّن "ان الغالبية العظمى من متفرّجي تلك الليلة كانوا من العمال المضربين المتعصبين لفكرة الاضراب"، وقد تجمّعوا ليفسدوا على الفرقة ما رمت إليه في عرضها، أي دعوة العمال إلى العدول عن الإضراب".

يذكر جميل راتب أنه شارك في مسرحية مأخوذة عن رواية دوستويفسكي الشهيرة، "الجريمة والعقاب"، أخرجها أستاذ روسي من الروس البيض. وقد لعب في هذه المسرحية دور عامل روسي، وأتقن الدور اتقاناً جعل المخرج ينظر إليه طويلاً ثم يسأله: "هل أنت روسي"، فأجابه: "كلّا أنا مصري"، فلم يصدّقه، وأصرّ أن يذهب معه إلى السفارة المصرية في باريس ليسمع شهادة الموظفين الرسميين، فكان له ذلك، لكنّه أصرّ على أن تعلن الفرقة في دعايتها للمسرحية أن الممثل روسي الجنسية فعلاً، "وكانت هذه الدعاية سبباً في أن يتضاعف الاقبال على المسرحية، وفي أن يصدّق المتفرجون ما قاله الأستاذ الروسي". 

وختم جميل راتب مقالته بالقول: "لم يكن نشاطي في المسرح يقتصر على تلك الأشهر المعدودة التي أعمل فيها مع الفرقة الرسمية، فقد كوّنتُ فرقة مع زملائي ومع بعض الهواة، وكنا نقوم برحلات إلى مدن فرنسا وقراها البعيدة، ولم تكن إمكاناتنا المالية تسمح لنا باستخدام مَن يقوم بطهي طعامنا أو تنظيم مسرحنا أو إعداده للعرض. كنا نعيش كخلية مليئة بالنشاط والحركة، وكلٌّ منا يقوم بعمل، فمنّا مَن يطهو الطعام، ومنّا مَن ينظّف الأرض، ومنّا مَن يتخصّص في رفع الستائر وفي إعداد المقاعد، حتى أجَدنا إلى جانب التمثيل وظائف أخرى لا تقلّ عن الفن العظيم نفعاً في الحياة".

تابع جميل راتب مسيرته خارج مصر في السنوات التالية، وظهر في العام 1956 في فيلم "ترابيز" الذي قام ببطولته بيرت لانكستر وتوني كيرتز وجينا لولو بريجيديا، ثم ظهر في فيلمين فرنسيين في العام التالي، لكنه بقي في الظل كما يبدو. واصل الممثل كفاحه في الستينات، وشارك في ستة أعمال تلفزيونية، كما عمل في عدد محدود من الأفلام السينمائية، أشهرها "لورنس العرب"، لكنه لم ينجح في ارتقاء سلّم النجومية، وظلّ على هذه الحال في السنوات الأولى من السبعينات حيث شارك في سبعة أعمال تلفزيونية، ثم عاد إلى مصر في 1974، وشارك في مسرحية "دنيا البيانولا" التي حصدت نجاحاً كبيراً، ثم عمل تحت إدارة المخرج كمال الشيخ في فيلم "على مَن نطلق الرصاص" حيث لعب دور زوج سعاد حسني، كما عمل تحت إدارة المخرج صلاح أبو سيف في فيلم "الكداب".

مثّلت هذه الأعمال الثلاثة بدايةً لانطلاقة جديدة لجميل راتب في مصر، ولعب الممثل المخضرم في السنوات التالية في سلسلة من الأعمال الفنية، أهمها فيلم "شفيقة ومتولي" من بطولة سعاد حسني وأحمد زكي، وفيلم "لا عزاء للسيدات" من بطولة فاتن حمامة، ومسلسل "أحلام الفتى الطائر" من بطولة عادل إمام. لمع جميل راتب في موطنه خلال بضع سنوات، لكنه لم يتحوّل إلى نجم من نجوم "الصف الأول"، وظلّ ضمن دائرة ما يُعرَف بـ"البطولة الثانية"، ولم ينقطع عن مواصلة العمل في فرنسا، وظهر في حلقة من المسلسل البوليسي الشهير، "المفتش ماغريه" في 1979. في الثمانينات والتسعينات، تضاعف هذا النشاط في مصر حيث ظهر جميل راتب في سلسلة طويلة من الأفلام والمسلسلات المصرية، وتقلّص في فرنسا حيث اقتصر على مشاركة متواضعة في بعض الأعمال، منها فيلم "نجمة الشمال" سنة 1982، وفيلم "حلق الوادي" سنة 1996.

واصل جميل راتب العمل بالوتيرة نفسها بعد بلوغه السبعين، وشارك في سلسلة أخرى من الأفلام والمسلسلات المصرية، كما شارك في بعض الأعمال الفرنسية، فظهر في حلقة تلفزيونية من المسلسل الفرنسي "لوي لا بروكانت" سنة 2006، كما ظهر في حلقة من المسلسل الفرنسي "دم الكرمة" سنة 2014، وشارك في فيلم "تركي الرأس" في 2010، ولعب دوراً كبيراً في فيلم "غيمة في كوب ماء" سنة 2012، وأنهى مسيرته الفنية في الفيلم المجري، "أمس"، الذي عُرض للمرة الأولى في مهرجان كانّ في الشهر الماضي.