شربل داغر... أهلًا بالنثر في القصيدة!

المدن - ثقافة
الأحد   2018/09/16
بودلير
تصيب القارئَ، والدارسَ قبله، الدهشةُ عندما يُطالع كتاب بودلير: "قصائد قصيرة بالنثر: سويداء باريس" (1869)، إذ لا يجد فيه ما اعتادَ عليه في النتاج المتداول لهذه القصيدة، وبالعربية منها. أولُ ما يصدمُه هو أن لقصيدة بودلير هذه هيئة طباعية لا تُشبه أبدًا هيئة القصيدة الموسومة بهذا النوع الشعري ذاته: ففي قصيدة رائد هذه القصيدة نقع على ما يمكن تسميته بهيئة المقطع، لا الجملة ولا السطر. لو أردتُ تقريب الصورة، لأفدتُ أن السطر فيها يمتدُّ إلى حين انتهاءِ ما يُناسب بناءَ المقطع. ولو طلب القارئ غير الملمِّ بالفرنسية، لَمَا كان تعرَّف إلى هذه النصوص بوصفها من الشعر، ولكان نسبَها من دون تردد إلى النثر. أما القارئ غير الملمِّ بالعربية، فلو توقف أمام هيئة قصائد لمحمد الماغوط وأنسي الحاج، لوجدَ أنها مختلفة عن هيئة القصيدة العربية القديمة، وأنها على تشابهٍ بسيطٍ مع النثر. هذا يعني أن ما شرعَ به بودلير يطلبُ النزول تمامًا في مساقط النثر، فيما أبقتْ قريباتها العربية صلةً أكيدة في الهيئة مع الإرث العروضي، فما قطعتْ معه تمامًا.

لنعدْ إلى بودلير: هيئة القصائد صادمة؛ تطلبُ قطيعة ناجزة مع الإرث الوزني أو المحوَّر في القصيدة الفرنسية. قطعَ مع آلويسيوس برتران نفسه، الذي تنقطع الجملة في كتابه، أو تنبني، أو تَمثل للناظر، في هيئةِ سطرٍ منقطِعٍ، مثل السطر في القصيدة الكلاسيكية، ولكن من دون قافية، أو وزن. قطعَ معه، لكنه اعتبرَه: القدوة والمِثال في هذا النوع من الشعر! في قصائد بودلير هذه لا يوجد غير سطرٍ متتابع، ولا ينزل إلى أول السطر إلا لحسابات تأليفية (لا وزنية، ولا طباعية)، ما يندرج في بناء المقاطع.

لا تختلف قصيدة بودلير، إذًا، عن أي نص نثري. بل يمكن القول إن القصيدة أسقطتْ بوابتها الحديدية الخارجية، كما أزالتْ الممرات الداخلية المنسَّقة للوصول إلى الدار؛ وما أن تصلَ إليها، ستجد فضاءً واسعًا، يسمح بإمكانِ توظيفِ مقوماتِ النثر، لجهة الأسلوب أو "الصنف"، في البناء العام.

لستُ في موضع يبيح لي الدرسَ المتأني والفاحص لهذه القصائد، غير أنني أبدي فيها ملاحظات عجولة : 
- ما يتيح بناءَ المقطع هو وجودُ ترابطٍ بين جُمل نحوية عديدة، من دون أن تكون الجُّمل متساويةَ الطول (كما نجده في بناء السجع، على سبيل المثال)؛ وإذ تتقدم الجملة، فلكي تتابع وتستكمل ما تباشر به، لا ما يَفترض وجود مقومات أسلوبية تتعين في الوصف المتتابع، أو التوالي السردي وغيرها.
- إن انتظام الجملة والجُّمل، لدواعٍ وصفية وسردية وغيرها، يتأتى من خيارات بدئية، بنائية، يطلبُها الشاعر لقصيدته، ما هو ضعيف أو مفقود في الشعر اعتياديًّا، وما يعني أن القصيدة بالنثر ليست شعرًا من دون وزن أو قافية، وإنما هي تمنعتْ عن تناولِ أساليبَ ساريةٍ لصالح أساليب متَّبعة في النثر عادة.
- بناء القصيدة بالنثر، منذ ضربات "المعلم" بودلير، قامت على خيارات أخرى للقصيدة، ولم تكتفِ بتعديل أحد مقومات الشعرية، أو بإسقاطه، مثلما فهمَها أو كتبَها البعض. قد يكون أولُ هذه الخيارات قيامَ القصيدة على خيار سردي، إذ أجد في قصائد الكتاب المختلفة أن غالبها يستند إلى ما يمكن تسميته بالفرنسية بلفظ (récit) الاصطلاحي، ما يمكن ترجمته بصعوبة في العربية: قصة؛ ويعني أن القصيدة تروي حكاية من دون أن تكون ممتدَّة زمنًا، وتقتصر على "شخصيات" معدودة، في مجموعة من الأحداث المتتابعة، من دون أن تكون شديدةَ الترابط بالضرورة، ما يقيمُها في "بداية" لا تلبث أن تبلغ "نهاية" لها.

- لم يعد للوزن، ولا للقافية، ولا حتى للإيقاع أي أهمية في انطلاق القصيدة، في تتابعها وانتظامها؛ لم تعد عدَّةُ العروض قيدَ العمل، بل معطلة تمامًا، وإن ظهرَ منها بعض التشكلات (التساوي في بعض الجُّمل والتراكيب، أو توازيها، أو بعض التوافقات الصوتية)، فهو مِما يأتي في دفق الكلام، في استحساناته وتوافقاته ليس إلا؛ وأيُّ كلامٍ عن "إيقاعٍ داخليٍّ" وهميٌ، مضللٌ، ودفاعي الطابع، فيما كانت تتجه قصيدة بودلير صوب أفقٍ كتابي آخر، ولا تبالي بغير هذا: بات النحو حجرَ زاوية هذه القصيدة.

- تميل القصيدة إلى إظهار: ما لا نراه، أو ما نراه من دون أن ندركه بالضرورة؛ كما تميل إلى سردٍ: ما لم نُخبر به، أو ما شهدناه من دون أن نتبينه تمامًا. ولا تستعين القصيدة (لروايةِ وإبرازِ ما وقعتْ عليه، في شارعٍ، في روضٍ)، بعينِها الحافظة والمتأنية في إدراكاتها المرئية، وإنما تستعين بالتأمل، وبالتخيل أيضًا: ما ترويه القصيدة هو ما تستخرجه أيضًا عينُ العقل، وعينُ الحلم.

- لا تبحث القصيدة، أو تستهدف شراكةَ القارئ الغنائية، وإنما تطمع بأن يواكب التجليات التي كانت خافية، وباتت ممكنةً بفضل قوى الشاعر المختلفة، التي تحتشد لجمعِ واستثارةِ مُتعٍ متداخلة: منها متعة العين إذ ترى، ومتعة الوعي إذ يفحص ويفكر ويبلور، ومتعة التخيل إذ ينتهج جغرافية الرغبة والحلم.


(*) مدونة كتبها الشاعر والناقد شربل داغر في صفحته الفايسبوكية