"قماشتي المفضلة" لغايا جيجي:على وقع خطاب موسوليني السوري

راشد عيسى
الأحد   2018/08/05
عناصر مشوقة عديدة في "قماشتي المفضلة" كان بإمكانها أن تصنع فيلماً ممتعاً
يبدو فيلم "قماشتي المفضلة"، للمخرجة السورية المقيمة في باريس غايا جيجي، كما لو أنه حكاية شخصية لا تمت للسياسة بصلة، غير أن الحدث السياسي، وإن بدا متوارياً في خلفية المشهد، لم يغب، بل إن حبكة الفيلم برمتها ستقوم على ذلك الحدث.

المشهد الافتتاحي يسلط الضوء على شابة تجلس إلى شباك في سيارة عمومية. إنها تتنشّق هواء آذار، كما سنفهم من جدال بينها وبين الركّاب، المنزعجين والمطالبين إياها بإغلاق الشباك. ترفض البنت، وتصرّ على الشباك مفتوحاً، فهو بالنسبة لها هواء الحرية الذي هبّ على البلاد في ذلك الربيع من عام 2011، وبالنسبة لهم ما هو إلا البرد اللاذع والمؤذي. لكن هؤلاء، وإن لم يستطيعوا إجبارها على الرضوخ لرغبتهم، سيمارسون وصايتهم في لحظة أخرى، عندما تطلب النزول من السيارة في موقف رأوا أن من غير المعقول لبنت أن تنزل عنده في ذلك الوقت.

لكن ما الذي ترنو إليه البنت من شباك الحرية المفتوح؟ ستأخذنا عيناها إلى واجهة محل للسهر العمومي، بألوان حمراء مثيرة، مكان لـ "المزاج". الأمر الذي سيفسّره الفيلم بعد هنيهات على نحو أكثر سفوراً.

تجري أحداث الفيلم (إنتاج العام2018، وشارك في مهرجان "كان" السينمائي الأخير) في حي دمشقي في آذار 2011. ويحكي قصة ابنة شابة لأسرة مسيحية (إشارة لم يجر توظيفها في حبكة الفيلم، لا أثر لها)، تعيش في ما يشبه "بيت برناردا ألبا"، حسب وصف المخرجة، حيث البيت النسائي المغلق على العالم.

تعيش نهلة (الممثلة اللبنانية منال عيسى) مع أمها وأختيها في بيت يحلم بالانعتاق في ظل أم متسلطة وأب غائب، لا تكفّ الأم فيه عن إلقاء المسؤولية على ذلك الأب. تواجه نهلة أسئلة نفسية جنسية، من نوع ماذا يريد جسدي، ماذا يطلب مني، كيف أرضيه، ومن هنا جاء العنوان "قماشتي المفضلة"، أيّ قماشة تناسب جسدي.

نهلة لا تعرف الجنس إلا في المخيلة، ففيها تبني قصة الحب والجنس المشتهى، لكنها في الواقع تصاب بخيبة بعد تقدّم عريس جاء من مغتربه الأميركي للزواج من بلده، جاء لخطبتها لكنه اختار أختها بدلاً منها، الأمر الذي يشعل لديها الغيرة والرغبة بالانتقام والاستئثار بالرجل.

أسئلة نهلة وعزلتها تدفعها لاقتحام بيت دعارة تديره مدام جيجي في البناية نفسها. باعتباره معادلاً للحرية كلها في مواجهة عالمها المغلق. تدخله بالفعل، تتلصص على عالم سادي وفاحش، تستأجر فيه غرفة تقول إنها من أجل لقاء مع حبيبها، لكن هذا في الواقع لا يأتي، وما الغرفة إلا للقاء البنت مع جسدها (الأمر الذي سيقود إلى مشاهد عري، تضاف إلى مشاهد الجنس المتخيلة في أحلام البنت). لكن من يأتي لاحقاً إلى تلك الغرفة هو خطيب أختها الذي تحقق معه لقاءها الجسدي الواقعي هذه المرة.

أنا يوسف يا أبي

لكن حكاية الفيلم على هذا النحو ستبقى ناقصة، ولن تكتمل إلا بالإشارة إلى تشابكها مع الحدث السياسي، هذا الذي نراه في الخلفية كمجرد صوت لمذيع أو محلل سياسي يستعيد تفاصيل نعرفها جميعاً، وبعض تلك المشاهد يؤثر مباشرة في تطور الحدث. فنهلة كانت تستمع لخطاب عن الحرية عندما تقرر (كأنما في ضوء ذلك الخطاب بالذات) أن تسرق علبة الشوكولا الثمينة لتهديها إلى صاحبة بيت الدعارة مدام جيجي كعربون صداقة، ومدخل إلى المنزل الغامض. أي أن حرية تلك الشابة، وثورتها الخاصة هي بيت الدعارة ذاك!


حتى لو كانت المخرجة تستلهم في  حكايتها هذه فيلم "حسناء النهار" للويس بونويل، حيث الزوجة التي تعيش علاقة زوجية مملة وباردة تلقي نفسها في ماخور، لكن في "قماشتي المفضلة" لا نجد لدى البنت مقدمات مقنعة للذهاب إلى هذا المكان، خصوصاً أن لا تماس مباشراً، فبيت مدام جيجي يعلوها بطابقين، فلا أصوات، ولا فتحات للتلصص يمكنها أن تورط الجيران، حتى ولا سعي من مدام جيجي لاستدراج البنت وتوريطها كما يحدث في الروايات والأفلام. نهلة تذهب إلى البيت بقدميها، تبتكر الحيلة تلو الحيلة لتدخل البيت، فيما سيدة البيت تعاملها بفظاظة.


 في تاريخ الثورة السورية تحولت ناشطات من الحجاب إلى ضده، أو أن نساء كثيرات طلقن أزواجهن، ولعل من المعقول والواقعي أن يكون الأمر بهذه الحدود. لكن ليس من المقنع أن يكون بيت الدعارة ثورة لبطلة من هذا النوع، والاستنكار هنا ليس أخلاقياً، بل لأن الفيلم لم يقدم أسباباً درامية كافية لهذا التحوّل.

ليس من الواضح أن لدى البنت قيماً تحلم بها في مواجهة عالم فاسد على سبيل المثال، كل ما هنالك أنها تعيش ثورة جسد وحسب،  وهي تبدو كشخصية شريرة بالمطلق: تسرق علبة الشوكولا، تكذب، تنتقم من أختها بسرقة خطيبها وصولاً إلى ارتكاب علاقة محرمة معه..

في بيت مدام جيجي (وهذه أيضاً تشكو غياب الأب في العلاقة المتوترة مع ولدها الصغير) ستتابع نهلة ثورتها بشكل رمزي. هناك إذ يتردد رجل وحيد، هو عسكري يأتي بكامل لباسه. إنه مدجج بالسلطة (يرفض أن يخلع بسطاره العسكري حتى أثناء الجنس). تُعرَض عليه النساء، ولا تكتمل متعته مع أي منهن إلا حين تسرد على مسمعه حكاية النبي يوسف. عندما تسأل المخرجة، في إحدى مقابلاتها، عن دلالات هذه الحكاية تقول إنها ترى في حكاية النبي يوسف رمزية السلطة، فهو "أولاً عنده سلطة الجمال، ثم لديه العبقرية، وهذه أيضاً نوع من السلطة. العسكري يرى نفسه بهذه الشخصية". للمخرجة طبعاً أن تقرأ الحكاية كما تريد، لكن توظيفها في الفيلم مقحم، لنتخيل أن النظام السوري، المجرم والمتوحش، الممثل هنا بهذا الرجل العسكري، يرى في قصة يوسف معادلاً له. أي استخدام بائس للحكاية! (لم أستطع منع نفسي من تخيل الضابط المعروف في جيش النظام سهيل الحسن يؤدي هذا الدور، مردّداً قصيدة محمود درويش: "أنا يوسف يا أبي، يا أبي إخوتي لا يحبونني، يعتدون عليّ، ويرمونني بالحصى والكلام..".

البطلة، نهلة، تعيش "ثورتها" في حكاية يوسف. فحين يجري تقديمها للعسكري إياه ستروي القصة على هواها هي، لا على هواه. سترفض أن تروي أحلام يوسف (تلك التي يرى فيها نفسه سنبلة قمح تسود على السنابل الأخرى النائمة)، كذلك ستختم الحكاية بأن تجعل يوسف يقبل بالنوم مع سيدته، على خلاف الحكاية الأصل، الأمر الذي يغضب العسكري، فيحطم ويحتج ويغادر المكان. المرأة هنا تبدو كما لو أنها انتصرت عليه، كما لو أنها امتلكت حكايتها بمجرد رفض الرواية كالمعتاد، أو كما يريد الرجل أن يروي.


على وقع الخطاب 

بعد ثورتها تلك في غرفة النوم سنرى نهلة في الشوارع، لكن كأنها غير تلك الشوارع التي عبرتْها من قبل. الحيطان التي تحمل شعارات مناوئة أبرزها "يسقط الأسد". المتظاهرون الراكضون،.. ثم يذهب الفيلم إلى مشاهد من اليوتيوب لتظاهرات وتفجيرات واعتقالات.

تقول المخرجة إنها استوحت هذه الطريقة في تركيب "المأزق الإنساني" على خلفية سياسية من فيلم الإيطالي إيتوري سكولا "يوم خاص"، الذي يتحدث عن علاقة بين رجل ذي ميول مثلية وامرأة، بقيا وحيدين في البناية فيما ذهب الجميع للمشاركة في احتفالية اللقاء بين هتلر وموسوليني. وهي تقول إنها استوحت بالضبط العلاقة بين الشخصين في موازاة خطاب موسوليني عبر الراديو.

وهنا يروح بشار الأسد، موسوليني السوري، يردد عبارات مثل "لا مكان لمن يقف في الوسط"، و"الشعب السوري مسالم"، لكن في الصورة سنجد مشاهد لتفجيرات هي الأعنف. لم يتردد الطاغية في قصف شعبه المسالم على هذا النحو. يعرض الفيلم ذلك المشهد الشهير في مدينة درعا لمصور يصرّ على حمل كاميرا فيما العسكر قبالته تماماً، وهو يكرر "سلمية، سلمية.. قوّصني. خلّ العالم تشوف".

تفضي هذه المشاهد إلى لقطة ختامية نرى فيها البطلة وهي تطلق للريح  قصاصات قماش من ثيابها كانت تحتفظ بها، حيث لم يعد جسدها يطيق أي قماش.

عناصر مشوقة عديدة في "قماشتي المفضلة" كان بإمكانها أن تصنع فيلماً ممتعاً. ليست المشكلة في كثرة الرموز، بل في عدم تسويغها درامياً. كذلك في الحوار البارد وفي أداء الممثلين الضعيف بالجملة، وهذه هي ضريبة الاعتماد على ما توفر من الممثلين. هؤلاء الذين لم يقدروا على الأقل إتقان اللهجة السورية، أو تقديمها بسلاسة.