عندما يتحدث ريموند كارفر عن الحب.. الواقعية القذرة

سارة عابدين
الخميس   2018/08/30
الكحول توفر مفتاحاً للصراع المركزي في القصة
في مجموعته القصصية "عمّ نتحدث حين نتحدث عن الحب"، الصادرة مؤخرا عن دار "كلمات" الإماراتية بترجمة سلطان فيصل، يقدم الكاتب الأميركي ريموند كارفر، من خلال 17 قصة، حياة البشر العادية والتفاصيل الإنسانية الهامشية للبشر الذين لا يلتفت أحد لحكاياتهم، ليزود القارئ بشعور من الدنيوية غير المثالية ولا الرومانسية، خصوصاً مع تنامي ظهور العنف الجسدي واللفظي بداخل المجموعة مع استمرار القراءة، ومحاولات شخصياته الوصول إلى مكاسب سريعة، وإنهاء الصراعات بشكل سريع وفوري، من دون الانتباه إلى أثر تلك الصراعات في إنسانيتهم، والتحولات الأكثر بشاعة التي تحدث لهم.

نُشرت المجموعة في الأصل العام 1981، وهي مجموعة قصص تمثل تيار الواقعية القذرة في الكتابة الأميركية الجديدة، والذي يُعدّ ريموند كارفر واحداً من أفضل ممثليه. تشكل قصص كارفر في هذه المجموعة صوتاً جديداً في ربط الخيال بالواقع. فهو يكتب عن الأشياء بلغة بسيطة تصوّر الألم والمعاناة، بديلاً من الأمل والسعادة. يعكس عالمه الأدبي في تلك المجموعة، الحياة الفوضوية لشخصياته، والزيجات غير السعيدة، والأشخاص الذين يستمرون في حياة غير مجدية، لمجرد عدم توفر خيارات أخرى، أو شيء آخر يمكنهم القيام به.

يجب النظر من قرب إلى خاصية الحذف في قصص كارفر، لأنها من أبرز سمات تلك المجموعة القصصية. تلك المقاربة التي تسمح بالحفاظ على جوهر نصوص كارفر، وتمنح القصص ثراء، وتعمل على تعدد تأويلات النص الواحد. فهو لا يهتم بكتابة القصة الكاملة لحياة شخصياته، لكنه يترك فراغات وفجوات لخيال كل قارئ، حتى أن القصة الواحدة يمكن أن تكون عشرات القصص، بحسب قراءة كل شخص. كما أن للوصف المباشر دوراً كبيراً في قصص كارفر، فهو يضع القارئ في أجواء القصة والمكان، من دون تجميل ولا إشفاق على القارئ، ليظهر مشاكل وكفاح الطبقات الدنيا والوسطى ضد عبثية الحياة وتعقيداتها. باستعمال أقل قدر من الكلمات، يقول كارفر إن الحياة غير عادلة معظم الوقت، وأن الأشياء السيئة قد تحدث للأبرياء في أي لحظة.

السرد لا ينخرط في ألعاب ذهنية مع القارئ، بل هو سرد بسيط يقدم الحياة كما هي، كلعبة بائسة ووحشية يعيش أبطالها في عزلة وصمت، بدءاً من القصة الأولى (لم لا ترقصان) التي تبدأ برجل يبيع أثاثه القديم في حديقة منزله، ويرتبه تماماً كما كان داخل المنزل. يمد المصابيح والتلفزيون والاستريو، كما لو كان بائعاً جوالاً ينادي "حياة بحالة جيدة للبيع"، ليأتي شاب وفتاة يؤسسان لحياة جديدة، فيشتريان حياته بأقل مما تستحق، لأنها حياة مستعملة، تشبه تماماً الأثاث المستعمل في الحديقة.

الكتابة المينيمالية
اللغة في المجموعة، مكثفة ومختزلة، وقد نجح المترجم في نقل روح كتابة كارفر المينيمالية، التي تشبه لغة الشعر إلى حد كبير، والتي تخلى فيها كارفر عن المفردات التقليدية، وعمل على  تكثيف وسائل التعبير والوصف، لبناء أسلوب انتقائي ما بعد حداثي.

لا يعني المينيماليزم وصغر حجم القصص، سهولة الكتابة، بل على العكس تماماً. تبدو شخوص كارفر منغمسة في عالمها الخاص، وتحمل تشكيكاً كبيراً ولا مبالاة ناحية الثوابت التقليدية. ورغم أن كل الأعمال الأدبية الجيدة تتطلب من القارئ بعض الجهد، فإن كتابة كارفر المينيمالية، تتطلب أن يفعل القارئ أكثر، لأن القصص ترفض تقديم إجابات سهلة وواضحة على العديد من الأسئلة التي تثيرها، مما يتطلب من القارئ إسهاماً متنامياً في التفاعل مع القصة. فالجُمل قصيرة، وفي بعض الأحيان تكون ملتبسة بين الشخصيات، والنهايات أكثر من مجرد نهايات مفتوحة، بل هي نهايات مباغتة، يقذفها كارفر في وجه القارئ فجأة، ربما من دون أن يدرك القارئ أن القصة انتهت بالفعل.

الحوار الداخلي لكل شخصية له دور كبير في سد الفجوات التي يتركها الكاتب في قصصه، وكأنه يرسم مقاطع أفقية غير مكتملة من مشاهد الحياة. ورغم الروابط الخفية المشتركة بين القصص والأبطال الذي يخلق لهم كارفر عالمهم الخاص، إلا أن هناك في الوقت نفسه اختلافاً تاماً بينهم، حتى أن القارئ لا يتوقع أبداً إلى أين سينتقل كارفر في القصة التالية.

من خلال اللغة المكثفة، والجُمل شديدة الاختزال التي تشبه التلغرافات، ينقل كارفر اللحظات الخاصة في تلك الحيوات الهائمة بلا هدف واضح، بالإضافة إلى الفقرات القصيرة المكونة من جملة واحدة، التي تعتبر واحدة من أهم سمات تلك المجموعة القصصية، وكثيراً ما يستخدمها كارفر للتأكيد على لحظات مهمة أو قوية أو حادة في حياة أبطال القصة، بالإضافة إلى محاولاته القاسية لتوثيق العنف والطبيعة البشرية العدائية. ويظهر ذلك بوضوح في قصة (عالم الميكانيكا) التي تظهر الصراع العنيف، الذي يصل إلى حد التقاتل بين زوجين على طفلهما. الطريقة التي يتقاتل بها الزوجان على الطفل والتجاذب بينهما، يذكرنا بقصة النبي سليمان مع المرأتين حول أمومة الطفل. لكن كارفر كان أقسى، حيث أصبح الطفل ممزقاً بالفعل بين والديه وأنانيتهما ورغبة كل منهما في الاحتفاظ بالطفل ولو ممزقاً.

القصص تصبح أطول وأثقل وأكثر قابلية للتأويلات المتعددة، كلما تقدمت المجموعة. ويتناول كارفر الموضوعات الفلسفية والجدلية بمزيد من العمق. فالقصص، رغم سهولتها لغوياً، تثير أسئلة فلسفية معقدة للقارئ الذي يهتم بقراءة ما بين السطور، عن طبيعة الحياة والحب في المجتمع المعاصر الذي يدفع أفراده في اتجاهات ربما لم تكن خياراتهم الشخصية، سواء في الزواج، أو العمل، أو الحب. فنلمح داخل القصص، التأثر بالنزعة العدمية لصاموئيل بيكيت، ويمكن أن تمثل قصص كارفر تأريخاً أو توثيقاً لحياة ومشاكل الطبقة الوسطى الأميركية في تلك الفترة الزمنية.

نتحدث عن الحب
يمكن القول أن القصة عنوان المجموعة "عمّ نتحدث حين نتحدث عن الحب"، هي الثيمة الجامعة لمفردات كارفر في تلك المجموعة، مثل الحب، الكحول، مفهوم المنزل أو البيت، العلاقات المعقدة بين الأزواج... يدور في القصة حديث بين زوجين، حتى تقوم الكحول بمفعولها ويخرج كل شخص ما يخفيه في أعماقه عن فكرة الحب، وهو ما يصطدم مع نظرة الشريك عن الحب، بالإضافة إلى طرح تساؤلات حول الحب الروحاني والحب الشهواني والحب العاطفي والمازوشي، والأسئلة المختلفة عن الحب، التي تتطور عبر الكحول التي تؤدي دوراً أساسياً في القصة. فهو يخرج صوت السرد الغامض الذي يلوح بشكل خفي وراء الكواليس، وفي العقول الباطنة للأبطال، حتى يقول لنا إن الأشياء ليست دائماً كما تظهر. بالإضافة إلى أن الكحول توفر مفتاحاً للصراع المركزي في القصة، لأن استخدامها يكون موازياً لتصاعد الأحداث، ما يؤدي إلى بلوغ ذروة الأحداث، والتي ربما تهدد بتدمير الروابط الاجتماعية، والعلاقات، واستقرار الحياة بشكل كامل.