"نائلة والانتفاضة" لجوليا باشا.. أَنصاف الحقائق لإنجاح السردية

شادي لويس
الجمعة   2018/08/03
بحسب سردية/ايديولوجيا المخرجة، فإن النساء مناضلات سلميات بالضرورة، أو بالطبيعة.
عبر خليط من الرسوم المتحركة، والمواد الأرشيفية، واللقاءات مع شخصيات الأحداث، تضع المخرجة البرازيلية، جوليا باشا، وجهاً للانتفاضة الأولى، وتمنحها صوتاً. ويأتي عنوان الفيلم التسجيلي "نائلة والانتفاضة"، باسم بطلته، المناضلة الفلسطينية نائلة عياش، قبل الانتفاضة نفسها. فالفيلم، عن الفلسطينيين، بوصفهم بشراً وأفراداً، لا مجرد حدث تاريخي. فالملثم، الذي كان لوقت طويل، أيقونة الصورة الفلسطينية، يحتاج وجهاً وإسماً وقصة شخصية تُروى.

وكما تأتي الانتفاضة معطوفة على نائلة، فإن السياسة تأتي عرضاً في قصتها. تنتهي بطلتنا في السجون الإسرائيلية مرتين، تفقد جنينها في المرة الأولى، بسبب التعذيب. وفي الثانية تُحرم من طفلها الرضيع، ومن زوجها الذي يُنفى خارج البلاد. وتنطلق حملة إعلامية واسعة لأطلاق سراحها، لكنها تقود إلى لمّ شملها مع رضيعها في السجن. وبين قصص الأمومة، والحرمان منها، والأسر الممزقة، والمنفى وفراق الأحبة، تكشف المخرجة التفاصيل الحميمة المفزعة للسياسة، وما يعنيه الاحتلال.. من قرب. لكن باشا لا تسعى إلى مجرد كشف البعد الإنساني للمأساة، والجانب الفردي من السياسة. فبُنية فيلمها تمهد في الخلفية، وبهدوء، لطبقة أخرى من السرد. فكثير من الرجال إما اعتقلوا أو نُفيوا خارج البلاد، وتجد النساء أنفسهن في مقدمة النضال.

يعيد الفيلم التسجيلي إلى الذاكرة، ما أُهمل عن الانتفاضة. يكتشف، على مهل، الدور الذي لعبته النساء الفلسطينيات، في الحشد وتنسيق الإضرابات العامة والمقاطعة الاقتصادية لإسرائيل وإقامة التعاونيات الإنتاجية، خلال الانتفاضة. يقدم الفيلم صورة أكبر للحدث. يتجاوز صور أطفال الحجارة، والإطارات المشتعلة، والصدامات مع قوات الاحتلال. فسنوات الانتفاضة تطلبت أبعد من إلقاء الحجارة. فبالإضافة إلى تكوّن بنية لقيادة الحراك، ومنظومة لاتخاذ القرار، وقع عبؤها على النساء، فإن إغلاق الاحتلال للمدارس والخدمات الطبية، تطلب إقامة شبكة كاملة من الخدمات البديلة والإدارة الأهلية المباشرة.


تضع المَشاهد الختامية للفيلم مؤتمر مدريد، جنباً إلى جنب مع المفاوضات السرية في أوسلو التي قادتها كوادر "منظمة التحرير" في الخارج. في الأول وجدت المرأة مكاناً لها في وفد فلسطيني الداخل للمفاوضات، وفي أوسلو لا تمثيل للنساء. عاد الرجال من المنافي، بعد اتفاقية أوسلو، وضعت السلطة الفلسطينية شرطاً إدارياً يلزم الفلسطينيات بضامن من الذكور لإصدار جوازات السفر لهن. تنتهي أوسلو باحتلال مقنّع، ومأسسة للأبوية، وخسارة لكل المكاسب الممكنة التي كان من الممكن أن يكفلها ما طرح في مؤتمر مدريد. يقدم "نائلة والانتفاضة" نسيجاً متماسكاً، وطبقة فوق أخرى من السرديات، راسماً صورة مركبة لنضال داخل نضال.  النساء المناضلات ضد الاحتلال، هن نساء، وهن فلسطينيات، معاً. وفي داخل هذا النضال، النساء يناضلن أيضاً ضد نظام أبوي يضعهن على خط المواجهة دائماً، ويخاطر بهن بحسب الحاجة، وينساهن عند الجلوس للتفاوض، وتوزيع المكاسب.

لكن أي رواية للتاريخ، لا تخلو من الأيديولوجيا، بل وربما كل رواية تاريخية هي إيديولوجية في صورة سرد. فجوليا باشا التي درست العلوم السياسية في جامعة كولومبيا الأميركية، لطالما قدمت نفسها بوصفها ناشطة في مجال النضال السلمي. فكلمتان لها في مؤتمر "تيد" الشهير، كان عنوانهما كالتالي: "إمنحوا انتباهكم للاعنف" (2011)، و"كيف تخوض النساء الصراعات من دون عنف؟" (2016). وفي أول أفلامها عن فلسطين، بعنوان "نقطة المواجهة" (2006)، تتبع باشا تحولات أبطال فيلمها من سكان المستوطنات اليهود، وكيف يتحول بعضهم، محاولة أن ترسم صورة للصراع من الجانبين، وأنسنة أطرافه، بغية إيجاد أرضية مشتركة للتعايش والتفاهم.



لكن باشا لا تكتفي بطرح مفاهيمها "اللاعنفية" في أفلامها. بل تلعب قليلاً بالحقائق والإيماءات، معطية صوراً ناقصة للحدث التاريخي، عن عمد، ما يناسب قناعاتها. ففي "نائلة والانتفاضة" يفرد الفيلم مساحة لمسيرة نسوية مشتركة للإسرائيليات والفلسطينيات من القدس الغربية إلى القدس الشرقية، وتنتقل منها إلى مؤتمر مدريد. يوحي ذلك الترتيب، بأن المفاوضات كانت نتيجة، ولو غير مباشرة، للنضال السلمي والتضامن النسوي بين الطرفين. ومن دون شك، لعب التضامن النسوي دوراً لا يمكن إنكاره، لكن الانتفاضة تضمنت في الحقيقة نضالاً مسلحاً وعنيفاً، سقط جراءه من الجانب الإسرائيلي حوالى 160 قتيلاً، وأكثر من 3000 جريح. بل قامت الفصائل الفلسطينية بتصفية حوالى 880 فلسطينياً، بتهمة التعاون مع المحتل.

تتجاهل باشا كل هذا، لصالح صورة مثالية عن النضال السلمي، وتصوُّر مبتذل للنساء، بوصفهم مناضلات سلميات بالضرورة، أو الطبيعة. تدين باشا، النضال المسلح، بشكل ضمني، وتتجاهل المناضلات الفلسطينيات ممن شاركن في حمل السلاح بالكامل، وتتناسى أن النساء يشكلن خمسين في المئة من الآلة العسكرية الإسرائيلية، وأنهن شريكات النصف في جرائم الاحتلال.

وفي ما يخص المشهد الفلسطيني الداخلي، تتعمد باشا، طرح أنصاف الحقائق فقط، والصمت عن الآخر. فالفيلم يكتفي بالإشارة إلى الغبن الذي وقع على القيادات النسوية للانتفاضة من سلطة أوسلو، ويحتفي باستمرار نضالهن الحزبي أو بعملهن في منظمات المجتمع المدني. وحين تتعرض خاتمة الفيلم إلى مصائر تلك القيادات النسائية، مثل المناضلة زهيرة كمال أو ربيحة ذياب، لا تذكر على الإطلاق أنهما تولّتا حقيبة شؤون المرأة في وزارات السلطة الفلسطينية، وأصبحتا جزءاً من أوسلو بشكل أو بآخر. تخفي باشا تلك الحقيقة، ببساطة، لأنها لا تناسب سرديتها.

يظل فيلم باشا، عملاً متقناً إلى حد بعيد، ويقدم اسماً وصوتاً وصورة للانتفاضة التي أضحى جزء من تاريخها في طي النسيان. وصحيح أن سرديتها التوثيقية تبقى ناقصة، عمداً، وبدوافع إيديولوجية، لكن ككل رواية ممكنة للتاريخ.