لغة المُقاطعة التي لا تقاطع

روجيه عوطة
الإثنين   2018/08/20
بمقدور المقاطعة أن تقلب زياد سحاب من موسيقي إلى "عميل"، لكنها لا يمكنها أن تقاطع إسرائيل
تتسم لغة البيانات الصادرة عن "حملة مقاطعة داعمي اسرائيل في لبنان" بأمر معين، وهو كونها تجمع بين الإخبار والتقرير على سوية مبتذلة، وهذا ما يجعلها منتجةً لنص واحد، أي لمحضر الضبط، الذي يشكل مدبجوه شهوده، وفي الوقت نفسه، منفذو الحكم الذي يفضي إليه. فلا يمكن لهذا المحضر أن يكون مكتوباً بلغة غير لغته تلك، كأن يبتعد عن الإنشاء، ويقترب من البلاغة، أو أن يقلع عن وهن الجملة، مستبدلاً إياه بتماسكها. فعندها بالتحديد، لا يؤدي مهمته الأساس، وهي كونه مجرد ورقة تمليها بيروقراطية القصاص، الذي يبدأ قبلها، ويستمر من بعدها، نظراً إلى أن بغية إجرائه هي بغية دائمة، وبالتالي لا بد من "أرشفة" تحقيقه.


فعلياً، مَن يقرأ بيان حملة "المقاطعة" عن زياد سحاب، بسبب مشاركته في فرقة تضم عازف الكمان أليكسي كوتشيتكوف خلال حفلة في برلين، يُلاحظ أن لغته إياها، ومع أنها تقدم خبراً عن كوتشيتكوف، إلا أنها تُدين سحاب بذنب الدنو منه، وبعبارتها: "التطبيع" معه. لغة هؤلاء تدور دائماً حول مشبوه أول، هو الإسرائيلي أو "المتأسرل"، ومشبوه ثان، هو الذي يجاوره. الإخبار عن الأول يفيد بتقرير الثاني بمسؤوليته، وبالتالي، تحويله إلى أصل الفعلة، التي، ومن أجلها، يجري المحضر. نتيجة ذلك، موضوع الإخبار سبيل للإستدلال إلى موضوع التقرير، بمعنى أن الإسرائيلي ليس سوى طرف مغناطيسي، يوقع المقترب منه في فخ الإنجذاب إليه، وهذا، قبل أن يسلمه للغة ذاتها. فالقيمون عليها يهرعون إلى الواقع في الفخ، ويمضون إلى الزج به داخل لغتهم، وحينها، يتكشّف بناؤها عن كونه حبساً، وقد علق اسم المسجون على بابه باعتماد الـ"tag".

لا مبالغة في القول أن حملة "المقاطعة"، وبالإنطلاق من لغتها، تبدو كأنها لا يهمها المشبوه الأول بل تكترث بالثاني، الذي سرعان ما تغيره إلى أصل البلاء. إذ تستدل من الإسرائيلي على "المُطبِّع"، وتنزل عقابها به. وعلى هذا النحو، لا يمكنها أن تشتغل، كجهاز لإنتاج محاضر الضبط من دون الإستناد إلى الإسرائيلي نفسه، الذي يؤشر لها على كل مَن يجاوره. بهذه الطريقة، حملة "المقاطعة" لا تستطيع مقاطعة إسرائيل، لأن هذا الكيان هو الذي يمدها بوجودها، وهو الذي يجعلها تؤدي وظيفتها، وهو الذي، وفي حال اختفى، تختفي معه، لأنها في تلك اللحظة، لن يعود لها أي سبيل للإنتقال من الإخبار إلى التقرير، ولن يعود لها أي حيثية أو مسوغ. بمقدور تلك الحملة أن تشوّه سمعة زياد سحاب، أو غيره كثر، أن تحرّض على سجنه، أو على محاسبته رسمياً. بمقدورها أن تقلبه من موسيقي إلى "عميل"، لكنها لا يمكنها أن تقاطع إسرائيل، ولا تقاطع مبرر عملها. وهذه الحملة تعرف ذلك، والدليل، وعدا عن استعمال "آيفون" وارتداء "لاكوست" ونشر كتب "إيان ماك إيوان"، فإن بوليسيتها تستر هزليتها التي تعني أنها لا تريد ولا يمكنها تحقيق غايتها المعلنة، بل تستعيض عنها بأخرى تحتها: الحصول على موقع فعالية عبر التشنيع الرخيص بالناس.

وفضلاً عن كون حملات "المقاطعة" تنفع الإحتلال الإسرائيلي أكثر مما تضره، بحيث أنه، وعلى أساس ادعائه التعرض للأذية من ناحيتها، يحصل على المزيد من الدعم والمساندة.. فلا يمكن غض النظر عن أن تلك الحملات، ولأن مسوغها هو الذي تزعم مقاطعته، والذي لا تقاطعه مهما كان موضوعاً لإخبارها، تنتقل إلى كونها مسكونة به. إذ تحذو حذوه في اعتمادها المسالك التطهيرية، وفي مقدمتها: القدح، والطعن، والسخرية، وتشويه السمعة، من أجل إبعاد "المُطبِّع" عن مبررها. ولما تبعده، يصير أصل البلاء، فهو لا يطّهر سوى لتقريره بالذنب المتواصل، لتحويله إلى مصدر الدنس، الذي - وهنا مسلك آخر من مسالك التطهير أيضاً- لا يمكن إتمام تنقيته بلا اقتلاعه بالكامل!