للاشتهار والإتجار.. أقلام انتفاعية تتمسّح بالرموز

شريف الشافعي
الإثنين   2018/08/20
صلاح جاهين
غير وارد بطبيعة الحال الترويج لحصانة مزعومة أو قداسة مأفونة لرموز الثقافة وقامات الأدب والفكر، خصوصًا من الراحلين الذين يكسبهم الغياب هالة إضافية فوق التماعاتهم. فحق انتقادهم مكفول للجميع، بشروط العلم الطبيعية، وضرورات المعرفة والأهلية واللياقة.

أمر مفروغ منه أيضًا أن يوصف بـ"الفضيحة" كل قانون أو مشروع قانون قمعي على غرار المسوّدة البرلمانية المعنونة بـ"إهانة الرموز والشخصيات التاريخية"، المحالة إلى لجان الشؤون الدستورية والتشريعية والإعلام والثقافة والآثار في مجلس النواب المصري، وتنص على حظر التعرض بالإهانة لأي من الرموز والشخصيات التاريخية، وفقًا لما يحدده مفهوم القانون واللائحة التنفيذية له.

مثل هذه التشريعات الفضفاضة، غير قادرة على توصيف وتحديد هوية الرموز والشخصيات التاريخية "التي تكوّن جزءًا من تاريخ الدولة"، وفق نص مشروع القانون، كما أنها ليست إلا بوابة لكبت الحريات وتكميم الأفواه، حيث يُهَدَّد مُنتقِدو الرموز بعقوبة الحبس لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات، وغرامة لا تقل عن مئة ألف جنيه (حوالى 5600 دولار).

على أن الاختلاف مع هذه القوانين الهزلية المضحكة، لا يمنع الاتفاق مع بعض مقولات صائغيها، كحقائق مجردة بحد ذاتها، ومنها أن الرموز والقامات الفكرية والثقافية والشخصيات التاريخية قد تتعرض أحيانًا للعبث والتشويه والتشهير، فضلًا عن تعرّض الأقلام القصيرة والفارغة والانتفاعية لها بالإساءة والتدليس، لتحقيق الشهرة والاستعراض، أو بسبب الاتجار والترويج. الأمر الذي يجعل مناصرتها لزامًا على كل صاحب ضمير ومسؤولية، بالقلم الحر وليس بالسجن والتخويف.

فرق كبير بين حق انتقاد الرموز، وتفنيد كتاباتهم وآرائهم وأفكارهم على نحو موضوعي ممنهج، وفق أدلة وأسانيد مثبتة، وبين توجيه اتهامات مرسلة إليهم، وإهانات أقرب إلى أن تكون شخصية، والقول على ألسنتهم أحاديث لم ترد في كتب موثقة، خصوصًا عندما يكون السياق كله انتفاعيًّا، في إطار فرقعة إعلامية أو ترويج تجاري لكتاب مقحم أو مدسوس، ككتب المذكرات مثلًا والأسرار والمجالس الخاصة للراحلين، التي يصعب التثبّت مما ورد فيها لغياب أبطالها.

من أحدث هذه الضجّات المفتعلة، المتمسّحة بالرموز والقامات، مقولة الناقدة سيزا قاسم الأخيرة، خلال ندوة مناقشة كتاب "أولاد حارتنا.. سيرة الرواية المحرمة" لمحمد شعير، إن نجيب محفوظ كان جبانًا في كتاباته وآرائه، وهذه سمة إتسم بها "الكثيرون من المثقفين المصريين".

بَنَت سيزا إساءاتها التعميمية على افتراض أن نجيب محفوظ لم يصرح بشكل واضح بأن "أولاد حارتنا" هي ترمزية دينية، مفضلًا التركيز على أهدافها وإسقاطاتها السياسية. وعللت سيزا توقف محفوظ عن الكتابة، في أعقاب ثورة يوليو 1952، لمدة ست سنوات، بأنه بسبب جُبنه أيضًا، وخوفه من الصدام مع النظام.

والحقيقة التي تجاهلتها سيزا قاسم، أو جهلتها، أن نجيب محفوظ صرح في أكثر من لقاء، لا سيما في لقاء تلفزيوني مع الإعلامي طارق حبيب، بأن توقفه عن الكتابة بعد ثورة يوليو يرجع إلى أن مجتمع الأربعينيات الذي كان يكتب عنه لم يعد موجودًا ببساطة، وأنه ككاتب واقعي صِرف في ذلك الوقت، كان عليه الانتظار والتأمل الى حين تشكل المجتمع الجديد.

للسبب ذاته، توقف محفوظ مرة أخرى عن الكتابة في أعقاب هزيمة 1967، (وليس هناك مجال لاتهامه بالجُبن هذه المرة، إذ لم تكن هناك سلطة جديدة). لكن التوقف لم يَطُل، رغم خلخلة المجتمع، وذلك لأن الكاتب كان قد بدأ يتحرر من واقعيته، فظهرت أعماله المتأثرة بالسريالية والتحليل النفسي بالإضافة إلى قصصه القصيرة الملتبسة.

أما محاكمة الكاتب من خلال آرائه وتصريحاته ومواقفه الشخصية، فهو الأمر الأغرب في حقيقة الأمر. فالأَولى أن تقاس الشجاعة في النتاج الإبداعي الذي خلّفه الكاتب، فهو فقط ما يدل عليه. ولعل أعمال نجيب محفوظ لا تحتاج شهادة نقدية من جيلنا الحالي، بشجاعتها التي بلغت حد المغامرة، على المستويات الجمالية والتنظيرية والأسلوبية والفكرية والفلسفية، بالإضافة إلى ثوريتها في انتقاد أوضاع اجتماعية وسياسية واقتصادية في الشأن الداخلي، والعربي، والعالمي.

من مثل هذه المقولات المرسلة أيضًا، والمتمسّحة بالرموز، التي لم ينجح مروّجوها في إثباتها، ما ردده التشكيلي جورج البهجوري في كتابه "رسوم ممنوعة" عن أن الراحل صلاح جاهين كان "لصًّا ظريفًا" ينقل عن موسوعة رسامي الغرب، وأنه كان يجلس خلف البهجوري يراقب خطوطه ليقتبسها بعدما فشل في أن يكون رسامًا في مجلة "روز اليوسف".

ولأن البهجوري لم يستطع إثبات ما أورده في كتابه، فإنه اعتذر عن كلامه بعد أشهر قليلة، موضحًا أنه كان يقصد مرحلة البدايات الأولى في حياة كل فنان، حين يكون متأثرًا بمن سبقوه، وبالوافد الغربي، وأن تعبير "لص ظريف" كان من باب الدعابة، وليس بهدف التقليل من حجم جاهين، العبقري وصاحب البصمة المصرية الخاصة.

شكل آخر من أشكال التمسّح بالرموز، بهدف الاتجّار بأسمائهم، لتحقيق التربّح كغاية إلى جانب الاشتهار. من ذلك، ما يمكن وصفه في الآونة الأخيرة بـ"هوجة" إصدار كتب المذكرات والأسرار والمجالس الخاصة والصالونات الشخصية وغيرها، المتعلقة بنجوم لم يعودوا أحياء ليفندوا ما ورد على ألسنتهم، وإن كانت هناك شواهد تشير إلى تلفيق الكثير من المعلومات والحكايات الواردة في هذه المؤلفات.



عدد غير قليل من هذه الإصدارات انصبّ على نجيب محفوظ، مثل كتاب "ليالي نجيب محفوظ في شبرد" لإبراهيم عبد العزيز، الذي يرصد فيه تفاصيل صالون محفوظ في فندق شبرد في السنوات الأخيرة من عمره، ومقولات الرجل وأصدقائه من شلة الحرافيش وزوّاره وروّاده حول الكثير من أمور الأدب والشؤون العامة.

لربما اتسمت ذاكرة المؤلف بالأمانة، ولربما كانت وقائع مما ورد في الكتاب حقيقية، لكن ما يعيب مثل هذه الكتب غياب التوثيق، وانتفاء آلية التحقق مما ورد فيها. ويكفي مثالًا على عدم الدقة، ما ذكره المؤلف على لسان محفوظ بأنه تمنى أن يكون لاعب كرة قدم لو لم يصبح أديبًا، وهو ما اعترضت عليه ابنته أم كلثوم في تصريحها لـ"المدن"، موضحة أن نشر مثل هذا الحديث باعتباره معلومة أمر يشوبه التدليس والمغالطة، فإن كان محفوظ قال ذلك فالمقصود الدعابة ليس إلا، ولا يصح نشر مادة لم يوصِ صاحبها بنشرها على لسانه.

وفي الختام، بالعودة مرة أخرى إلى تلك الاتهامات المرسلة التي وصفت نجيب محفوظ بالجبن وعدم إبداء مواقف شجاعة في الكتابة وفي ميدان المعارضة السياسية، تقول ابنته أم كلثوم إن أعماله الخالدة كفيلة بردّ غيبته، وعلى منتقديه أن يعيدوا قراءة "أولاد حارتنا" و"ثرثرة فوق النيل" و"الكرنك" و"ميرامار" و"الحرافيش" ليعرفوا كيف تكون الشجاعة.

وبقدر ثراء التجارب الكبيرة، يبقى صداها مؤثرًا، وبقدر ضياء الرموز الأصيلة والقامات العالية تظل إشعاعاتها قادرة على حماية ذاتها من الحماقات الهشة، التي ربما تملك صخبًا، لكنها لا تقوى على إطفاء شمعة.