إيغي بوب يعيد إحياء "البانك" على وقع الإلكترونيكا

يارا نحلة
الأحد   2018/08/19
صرخة الحرية الأخيرة من حنجرة رجل متهالك في زمن النوتات الإلكترونية.
منذ 22 عاماً، ذُهل ملايين المشاهدين حول العالم أمام واحدٍ من أشهر أفلام التسعينات وأكثرها جرأة؛ Trainspotting. كان الفيلم مدهشاً في قدرته على تحويل أحد أفتك وباءات ذلك الزمن، وهو وباء إدمان الهيرويين، إلى تجربة سينمائية فاتنة ونابضة بالحياة والجموح. ولعلّ أكثر العناصر مساهمةً في جموح الفيلم وثوريته كانت الموسيقى التصويرية التي ابتدأت بأغنية روك للأميركي إيغي بوب، وانتهت بأخرى إلكترونية للفرقة البريطانية Underworld، مختزلةً المشهد الموسيقي البريطاني لتسعينيات القرن الماضي.


 ذاك الحوار الذي افتتح يومها بين لغتين موسيقيتين متباعدتين، أعيد استكماله مؤخراً خلال "جلسات شاي" أسفرت عن مشروعٍ موسيقي جديد بعنوان "Teatime Dub Encounters"، وهو عبارة عن تعاونٍ بين عرّاب ال Punk Rockإيغي بوب، ورواد موسيقى الرقص الإلكترونية Underworld. الألبوم المؤلف من 4 أغنيات أخرج بوب من اعتزاله الجزئي ليجتمع بثنائي Underworld (كارل سميث وريك هايد) في أحد فنادق لندن حيث أعدّ الثنائي إستيديو داخل غرفة واستقبلا فيها العجوز السبعيني الذي أتى حاملاً معه إرتجاله المعهود.

إزاء إيقاع سريع في الخلفية، يرتفع صوت بوب مستهلاً الألبوم بأغنية Bells & Circles، ليشتكي من فقدان الأيام الذهبية، تلك التي كانت متوجة بحرية "التدخين في الطائرة"، و"استنشاق الكوكايين من على صوانيها". "انتهى زمن الديمقراطيات الليبرالية،" يستنتج بوب، ثم يقع في نوستالجيا زمنٍ كان مراهقوه "يخطفون الطائرات ويرسلونها إلى كوبا". يرتجل بوب عواءً وضحكاً هستيرياً، ليعود ويغرق في حلقة التذمر الوجودي.

تتجلى في هذه الأغنية روح موسيقى البانك التي كان بوب من أبرز مؤسسيها. فهو لطالما نادى بالمتعة، بكلّ أشكالها حتى المدمّرة منها، في أغانٍ مثل "Lust for Life" و"Search and Destroy". لم ينغمس بوب في مذهب الهيدونيسم من خلال فنّه فحسب، بل جعل حياته بأكملها ملعباً لرغباته اللذوية التدميرية من رحلة الإدمان الطويلة مع الهيرويين، إلى سلوكه المسرحي الشاذ، كظهوره بمظهر "الأبله" تارةً، أو استخدام جسده في حركاتٍ حيوانية تارةً أخرى. لكن وبالرغم من ذلك، خالف بوب توقعات كل من رآه خلال الثمانينات واستبعد أن ينجو هذا المغني المتأرجح بين سخطه المتهور وملله الحادّ من سطوة ملذات عالم الفنّ.

فغضب بوب لم يقتله، ولا ملله، ولا حتى أثر المخدرات الذي كان مرسوماً على جسده بالأكمل. غنّى يومها "أنا فهد يجول في الشوارع، بقلب مليء بالقنابل". وبالفعل، حافظ بوب على لياقته الجسدية وقلبه النابض بالغضب، وعبر بهما، دون غيره من معاصريه، إلى قرننا هذا، ليعود ويكرّر أسطوانة السأم نفسها، هذه المرة على وقع إيقاعٍ يدور في حركةٍ لولبية حول نفسه.

إن ذلك الإنصهار بين عدمية بوب التدميرية و"شهوته تجاه الحياة" هو ما صنع فرديته. فقد تجسّد فيه هذا التناقض الجوهري لموسيقى الروك اند رول عموماً، والبانك خصوصاً. أما اليوم وقد هرم هذا النوع والموسيقي برد الدم في عروقه، يلجأ بوب إلى موسيقى شابة لا تزال في أوج سنينها، لكي يسرد ندم حياة طويلة عاشها على حافة الهاوية. يعبّر عن خوفه من الشيخوخة في أغنية "Trapped"، فيقول "لا كأس ولا مخدّر سيساعدني بعد اليوم". أما في “I’ll See Big”، يخلع بوب عباءة التمرّد الفظّة مع انخفاض وتيرة الموسيقى. لا ينوح ولا يقلّد أصواتاً حيوانية، بل يظهر كما هو؛ رجل عجوز يعرّي وحدته. يشتكي بوب من لاجدوى الأصدقاء، فهم "متطلبون ومكلفون".

وبالطبع، لم يستثن من تذمّره النموذج الاقتصادي لعالم الـ"شو بيزنيس" الذي عبّر عن عدائه له كثيراً، هو الذي أسّس فرقة The Stooges لتكون "يوتوبيا شيوعة يتمّ فيها تقاسم المال وحقوق التأليف بشكلٍ متساوٍ،" حسب وصفه. ففي أغنية "Get Your Shirt"، يحذّر بوب الموسيقيين اليافعين من خداع واستغلال شركات الإنتاج؛ "انهضوا من الوحل، وخذوا ما لكم"، يقول لهم.

إذا كان Trainspotting يستحقّ تتمة -الجزء الثاني الذي أتى بعد عشرين عاماً- فموسيقاه كذلك. فهي قد وثّقت لحظة مهمة من تاريخ موسيقى القرن الماضي، وهي اللحظة التي تقاطع فيها اندثار الروك مع انبثاق ال Rave music، فتلاقت سوداوية الأول مع أمل الآخر، ليصنعا مزيجاً غريباً من التمرّد العدمي المفعم بمتعة الخلق والتدمير على حدّ سواء. أما التعاون الحالي، فهو بمثابة صرخة الحرية الأخيرة من حنجرة رجل متهالك في زمن النوتات الإلكترونية.