الحراك مرة أخرى

روجيه عوطة
السبت   2018/08/18
غرافيتي الحراك المدني في قضية النفايات العام 2015 (غيتي)
ثلاث سنوات مرت على حراك الشارع في لبنان، وثلاث سنوات على زواله. ومع ذلك، ما زالت ظروفه مؤاتية. هذه الجملة ليست دعوة إلى إحداثه، فعندما سيقع، لن يستند إلى الحض عليه، إذ إنه سيداهم بوقوعه. لكنه مطلع للكلام عن كون الحراك إياه قد تحول، وفي بال الكثيرين ممن انخرطوا فيه، إلى موضوع توبة، وطبعاً، هم لا يندمون عليه بطريقة صريحة، بل مواربة، وهذا، عبر السخرية منه ومن مشاركتهم فيه.

يعمدون إلى تناوله كأنه ضرب من المراهقة، أو الطيش، وقبل ذلك كله، كأنه ينم عن البراءة التي كانوا يتسمون بها، والتي، وعلى أساسها، اعتقدوا بلزوم تظاهراتهم، وبمفعولها، إلى أن اكتشفوا أن البراءة سذاجة، وأن اعتقادهم مجرد وهم.

في الكثير من الأحيان، تنطوي توبتهم تلك على المغالاة، بحيث أنها تدفع إلى الإمتثال، الذي يجري الاتفاق على كونه نضجاً، إلا أنه لا يمت له بأي صلة. بالإنطلاق من هذه المغالاة، يرددون أن أسباب ذلك الحراك لم تكن جدية، كما أنها، وعندما يحاولون الوقوف عليها في الحاضر، لا يجدونها. وهذا ما يندرج أيضاً في سياق ما يسمى - زوراً - النضج، لأن قوامه الإقلاع عن إدراك بعينه، بالإرتكاز على أنه كان بمثابة انخداع، تماماً كما هي حالة هؤلاء الذين يرجعون عن نسويتهم، بوصفها مَعصية، فيصيحون بأن النساء لا يتعرضن للقمع، بل أنهن القامعات، ويصيرون أعداء لهن!

لقد كان الحراك، وككل حدث، ضرورياً، وفي مكانه. وهو، حين استند إلى بروز النفايات إلى العلن، بَيَّن كل مكتوم في البلاد، كل أزماتها التي لا يسترها دفنها بل يحجبها التعود عليها. على إثر الحراك، تعطل هذا التعود، وصارت مواضيعه، أي الأزمات إياها، غير محتملة. ونتيجة ذلك، غدا من اللازم الإقرار بها، الإقرار بأن كل شيء ليس على ما يرام. عن هذا الإقرار، الذي ألفه الإحتجاج والتظاهر، لم ينم أي صراع. فمن بعده، جرى استئناف السابق عليه. لكن، وفي أثنائه، أشار إلى الذين يستمدون سلطتهم من غياب التصارع، ومن تغييبهم له. التحذير من الحرب الأهلية، الخوف منها، كل هذا جرى إشهاره كدعاية سهلة بهدف الحفاظ على ذلك التغييب، والإطناب فيه، ولو بطريقة كاريكاتورية.

وجهت السلطات عنفها ضد الحراك بسبب إقراره البديهي، إقراره بأن البلد سيء الحال، وأن تلك السلطات نفسها، وفضلاً عن تحملها مسؤولية وضعه هذا، لا تستطيع أن تحسّنه. كل ما يمكن أن تفعله هو إبعاد عوارض انهياره عن العيون. مرةً بطمسها، ومرةً بالسعي إلى تسفيرها عبر البحر، وعندما لا تقدر، تركن إلى الحل القاطع: تغطية العيون بإشاحتها. بذلك، أقرت السلطات أيضاً بأنها تعاني مأزقاً، مفاده انعدام حيلتها، وفي النتيجة انعدام سياستها. في العام 2015، انكشف مصرع السياسة، وانكشف أن العيش من بعده هو عيش تغافلي، بحيث أنه لاحق على الذي جرى إدراكه. ولكي يستمر هذا العيش، يجب غض الطرف عن المُدرَك عبر التعاطي معه كإسكتش طويل، أو كسرابٍ غليظٍ، يومها، أنتجه الملل والسخط في طقس رطب وحار.

في كتابه القيّم، بعنوان "أفول السياسة"، يكتب الفيلسوف الإيطالي ماريو ترونتي ما معناه: "ما جرى لوقت فهمه، جرى مع الوقت نسيانه، إلى درجة أن أحداً لم يتنبه إلى كون التاريخ بلا عهد. لا شيء يقع. لا وجود لأي واقعة. لا وجود سوى للأنباء. النظر إلى الشخصيات في القمة يحتم قلب عبارة اسبينوزا: لا شيء يستلزم الفهم، بل يستلزم الضحك والبكاء".
بعد ثلاث سنوات على الحراك، ما زال الضحك هو أفضل عمل.