زيارة إلى يوسف شاهين: الفن، التجارة، وغواية الغرب

أحمد شوقي علي
الثلاثاء   2018/08/14
الزيارة الجديدة إلى يوسف شاهين، أقرب إلى تحديق فاحص في وجهه
يقول الشاعر عبد المنعم رمضان، إنه أطلق عنوان "الصعود إلى المنزل" على أحد كتبه، لأنه ضمّنه جزءًا من أشعاره وبعضاً من أرائه وجانبًا من سيرته الذاتية، وهي الأشياء التي يمكن أن يقدمها لأي زائر يصعد إلى منزله؛ سيقدم له نفسه. ربما يبدو ذلك المعنى قريبًا مما قصده صنّاع مجلة الفيلم، باختيارهم عنوان عددهم الأحدث/التذكاري "يوسف شاهين.. زيارة جديدة"، غير أنهم – ربما لأنهم ليسوا أصحاب المنزل - يمنحون القارئ صورة جديدة عن يوسف شاهين، لم تكن بالوضوح نفسه في حياته، أو طمست معالمها السنون بعد غيابه.

بهذا المعنى، جاءت الزيارة الجديدة إلى يوسف شاهين، أقرب إلى تحديق فاحص في وجهه، لا في مقتنيات منزله، وربما لذلك احتوى العدد على نحو 90 صورة نادرة ليوسف شاهين ولكواليس أفلامه وبعض أفيشاتها، ولم تنشغل في استعراض أرشيفه الخاص، الذي تشير أمنية عادل، المحررة بالمجلة، إلى أنه يحتوي على "سيناريوهات كاملة وديكوباج وتصور كامل للحركة والكلمة وكل ما يظهر على الشاشة" وجدوها أثناء رحلة البحث في مقتنياته المتاحة بالسينماتك. حيث إن العدد لم يضم من وثائق شاهين الشخصية، غير الصور، وجانباً من تسجيل صوتي جمع يوسف إدريس بشاهين خلال التحضير لفيلم "حدوتة مصرية"، وهي مقتنيات، على الرغم من حصريتها، بدت أقل أهمية من تلك التي ظهرت في معرض نظمه مركز "سينماتك" في القاهرة، في أكتوبر2016، وضم صورًا ضوئية لصفحات من سيناريوهات كتبها يوسف شاهين ولم ينفذها، وبعضاً من كواليس تصوير أفلامه ومسرحية أخرجها في فرنسا، بالإضافة إلى ثلاثة تسجيلات صوتية، واحد لجلسة من جلسات تحضير "حدوتة مصرية"، والاثنان الآخران لبروفَتي أغنية "حدوتة حتتنا" من فيلم "اليوم السادس"، وأغنية "اهتفوا باسم الإله" من "إسكندرية كمان وكمان".

يعتمد العدد الجديد من "الفيلم" في قوامه الرئيس، على المادة المكتوبة، بوصفها الزيارة الجديدة التي تضمر معنى التفكيك والتحليل، وهو غرض نجحت هيئة تحرير المجلة نوعًا ما في إدراكه. فثمة مواضيع –ليست بالقليلة- ضمها العدد، بدت أفكارها براقة واحتوت على كثير من المعلومات الهامة، لكن سذاجة الطرح والركاكة التي صيغت بها أظهرتها على العكس من ذلك. في المقابل، ظهرت مواد أخرى كثيرة على درجة عالية من الجودة، وكأن هيئة التحرير لم تضع معايير واضحة لاختيار المواد المنشورة، فبدا التفاوت كبيرًا بين المواد وبعضها البعض، وهو تفاوت لا يقدم زوايا مختلفة للنظر إلى منجز يوسف شاهين الفني، بقدر ما يعكس تضارباً في مجمل رؤية المجلة. ففي حين سعت المقالات والأبحاث القيمة إلى تحليل منجزه الفني خارج القوالب الجاهزة، وبعيدًا من الأحكام الجاهزة، لم تستخدم المواد الأخرى (الركيكة) إلا الكليشيهات والأحكام المكرسة لوصف ذلك المنجز.



ورغم هاتين الملاحظتين، فإن مادة المجلة لم تخرج عن الهدف من وراء عنوانها "زيارة جديدة". فمواد مثل: "حدوتة القلب المفتوح.. على طاولة المخرج والأديب" لآية طنطاوي، و"شاهين كيف كانت بدايته" لضياء مرعي، و"حوار الأفكار في دراما يوسف شاهين" لوليد يوسف، و"العقل والوحي في مصير يوسف شاهين" لجوان دوبو بترجمة "محمد عثمان خليفة"، ودراسات مثل: "الهوية – الشعب – المقاومة.. شاهين في مرآة دولوز" لبدر الدين مصطفى، و"مركزية المكان في سينما شاهين" لعاطف معتمد، و"العالمية العربية والغربية في سينما شاهين" لوليد الخشاب)، ومقالات لأحمد الخميسي، وشهاب الخشاب، ومحسن ويفي، وأمنية طلعت، ورمسيس مرزوق، وحوارات مع: محمود حميدة، ويسري نصرالله، ويحيى الموجي، وروبير ريجيس، رئيس قسم الأرشيف والبحث في السينماتك الفرنسي، بالإضافة إلى استبيان أجرته أماني صالح حول رأي الجمهور في أفلام يوسف شاهين.. مواد مثل تلك السابقة، شكلت في مجملها، وفي تداخل أفكارها، الزيارة الجديدة المقصودة ليوسف شاهين وسينماه، بالمعنى التحليلي، لا الاحتفالي.

وهو الطرح الذي يؤسس له، مقال شهاب الخشاب المكتوب بالعامية المصرية، ويعيب فيه على التحليلات المعتادة لأفلام يوسف شاهين، سواء كانت جمالية أو تاريخية، والتي يقرأ الناقد خلالها "شخصية يوسف شاهين وأفلامه من طريق خانات محددة ومحدودة (...) فمثلاً ممكن يحلل الخطوط الدرامية الرئيسية في "الناصر صلاح الدين" ويربطها بالخطاب القومي السائد في هذا الزمن، بدون ما يحط الفيلم في السياق الجمالي العالمي اللي ظهر فيه "الناصر صلاح الدين" بالتزامن مع نوعية أفلام تاريخية إيطالية وأميركية اشتهرت في الخمسينات تحت اسم "البيبلوم(Peplum)"، كون ان هذا الربط نادر في الكتابات النقدية عن يوسف شاهين بيعبر عن حدود الكتابات دي (...) كذلك الكتابات المعتادة عن يوسف شاهين، بتهتم بتحليل مجموعة من أفلامه المعروفة بإنها فنية وقيمة، ولكن مبتهتمش بإجمالي إنتاجه، بما في ذلك الأفلام اللي تعتبر تجارية زي "بابا أمين" أو "سكوت.. إحنا هنصور" مثلاً، مع إن شاهين نفسه ما كانش عنده مانع يتحرك بين عوالم الأفلام الفنية والتجارية، العالمية والمحلية المهرجانية والميلودرامية. وجود الخانات دي بتخلي الناقد يغض النظر عن إنتاج شاهين التجاري عشان ما يبوظش صورة المبدع العبقري، رغم إنه ماكانتش في دماغ المخرج نفسه، لأن اهتمامه بالسينما كان منفتح على عالم أوسع من الأفلام اللي النقاد بيركزوا فيها".

أحلام شاهين وإدريس
بالنسبة اليّ، كان التسجيل الصوتي (30 دقيقة) الذي أتاحه مكتب السينماتك في القاهرة، خلال معرض 2016، للجلسة التي جمعت يوسف إدريس بشاهين، الأكثر لفتًا للنظر من بين المواد التي ضمها المعرض آنذاك. وفي عدد "الفيلم" تقدم أية طنطاوي عرضًا وافيًا لتلك الجلسات جميعها، لكن ملمحًا آخر، غير التباين في وجهتي النظر بين المخرج والأديب، يمكن استنباطه عبر القراءة التي قدمتها آية، ومقال آخر كتبه محسن ويفي عن الأفلام الست القصيرة ليوسف شاهين. والملمح هو أن فيلم "حدوتة مصرية" كان مقررًا له أن يجسد الأحلام الشخصية للمبدعين، لا السيرة الذاتية، كما ظهر على الشاشة في الصورة النهائية للفيلم.

تقول طنطاوي إن إدريس تحول من خلال السرد إلى "بطل الحدوتة من دون أن يدري"، وهو ما رفضه "رفضًا قاطعًا فثار بشدة (...) بعدما سلمه (شاهين) المسودة الأولى من السيناريو، لأنه رأى أن شاهين خانه في هذه الجلسات وكشف كل اعترافاته وألصقها بالشخصية".
قصة الفيلم الأساسية كان باعثها تجربة الإصابة بمرض القلب التي خاضها كلا المبدعَين، وعملية القلب المفتوح التي خضعا لها وأجراها الطبيب نفسه (مجدي يعقوب)، فكان من الطبيعي أن تبدو كسيرة ذاتية لأي منهما، وإن اختلف إطار الشخصية العام عنهما. وبعدما رفض إدريس السيناريو الذي قدمه شاهين، وهدد بمقاضاته إن أظهره على الشاشة، لم يكن عصيًا على الأخير أن يحول قصة الفيلم ناحيته.

أثناء الكتابة، اتفق إدريس وشاهين أن يكون البطل شخصية مشهورة، لكنهما اختلفا حول تسميته وأسباب شهرته. كان إدريس يرى بطله عالِماً مصرياً حاز نوبل، وليس خفيًا على متتبعي سيرة رائد القصة المصرية أن الحصول على نوبل في الآداب كان حلمه الأثير. أما شاهين، فاختار أن يكون بطله -كما ظهر في الشريط النهائي للفيلم- مخرجًا، مستكملًا "ما لم ينهه في فيلمه السابق "إسكندرية.. ليه؟"، لكنه لم يتخلص –مثل إدريس- من وطأة حلمه الشخصي في أن يلقى التقدير الذي يستحقه من مهرجان "كان"، وربما يتضح ذلك الرابط أكثر من خلال الفرصة التي جاءته للمشاركة في الفيلم التسجيلي "لكل سينماه"، الذي اشترك فيه بصحبة مخرجين آخرين، حول رؤية كل منهم للسينما وحلم كل مخرج فيها. وفي الاسكتش الخاص به، يعيد يوسف شاهين ويكرر مشهدًا من "حدوتة مصرية"، بحسب محسن ويفي، الذي يرى أن الاسكتش يعكس الحلم "الذي استمر معه طوال مسيرته السينمائية، بنيل إشادة الغرب به وبأفلامه (...) ليس هذا الاسكتش عن "لكلٍّ سينماه" وإنما "لكلٍّ أحلامه" الخاصة، لأننا لم نر السينما الخاصة التي أملها يوسف شاهين، وإلى أي حد حققها؟ وإنما حلمه الخاص في اعتراف الغرب به وبسينماه".

في مسألة "اللخبطة"
ترى سمر هادي، في تقرير أعدته بعنوان "حسن فؤاد من الرسم على الجدران إلى الأرض"، أن إنجاز يوسف شاهين الرئيس كان في النقلة التي أحدثها في تخليص السينما من "سلطة الكلمة المكتوبة، والتي كانت لها الأولوية، خصوصاً مع استلهام السينما للعديد من الروايات لكبار الكتّاب؛ إلى الإعلاء من وظيفة المخرج ووجوده على حساب الكلمة والحوارات الطويلة بين الشخصيات أو المنولوجات الفردية". ورغم إدراك جمهور السينما العربية لذلك الإنجاز، إلا أن حكمهم على أعماله استند في كثير منه إلى "الكلمة المكتوبة"، متهمين العديد من أفلامه بأنها "عصية على الفهم"، وربما يعكس الاستبيان الذي أجرته أماني صالح، وشارك فيه 113 شخصًا من جمهور مجلة "الفيلم"، ذلك الرأي بصور متعددة، حيث سألت المحررة المشاركين: "أي حد ممكن يتفرج ويفهم أفلام يوسف شاهين"، فاعترضت الغالبية (56 صوتًا)، بينما وافقت البقية بأريحية (22 صوتًا) نافيةً تلك الفجوة.

وربما يكون ذلك الأمر مستساغًا لدى جمهور متفاوت الذوق الفني والوعي الجمالي، لكن الأكثر إدهاشًا هو أن يعتنق مثل ذلك الحكم بعض النقاد والفنانين الذين عاصروا شاهين وتعاونوا معه في أعماله المختلفة. ففي تقرير سمر هادي، والذي ضمّنته حواراً أجرته مع منى فوزي الصحافية في مجلة "صباح الخير"، وأحد أقرباء حسن فؤاد كاتب سيناريو فيلم "الأرض"، تنقل الأخيرة عن فؤاد، قوله إن "نجاح الفيلم يرجع إلى أن الفيلم مفهوم، وأكد وقتها: "أن مفيش داعي حد يقوله عشان ميزعلش". ورغم أن هذا الرأي يحمل مغالطة منطقية كبيرة، حيث إن أعمال شاهين السابقة على الأرض كانت غالبيتها تجارية بالمعنى الدارج، إلا أن الرأي نفسه، يشير إليه يسري نصرالله في حديثه للمجلة، من خلال واقعة سردها عن فيلم "الابن الضال": "لم أكن أريد أن أذهب لمشاهدته، لكن كنت مع سمير فريد ومحمد كامل القليوبي في اتحاد النقاد، وقالوا عنه إنه فيلم حلو لكن به لخبطة "يوسف شاهين". (...) ولم أجد فيه أي شيء ملخبط بل شعرت كأنه يكلمني بشكل مباشر، ويمتعني أيضاً بموسيقاه ونضارته ولأول مرة أحس أني أمام فيلم مختلف عن كل ما يحدث في السينما المصرية".

الرأي ذاته يؤكده محمود حميدة، الذي يسجل عن لقائه الأول بشاهين أن الأخير دعاه: "لاجتماع، ولم نكن على معرفة ببعضنا البعض. كنت مازلت في بداية مشواري الفني، وقال لي إنه يخاف من النجوم الجدد، ومن غرورهم، ومني أنا، لأني أبدو أكثر تعالياً منهم، فبادلته بالقول بأنني أيضًا لا أحبه لأنني لا أفهم أفلامه، وهذا يشعرني بالغباء، وهو شعور لا أحبه".



شاهين مخرجًا تجاريًا
غير أن المفارقة الحقيقية، التي تعكسها المواد المختلفة لعدد "الفيلم"، أن يوسف شاهين كان يتعامل بمنطق تجاري بحت مع جل أعماله، حتى غير الجماهيري منها. فهو لم يصنع فيلمًا إلا وأسند دور البطولة فيه إلى نجم جماهيري، أو دججه بالمشاهير حين يسند بطولته إلى وجه جديد، وكان ذلك يُعتبر معادلته الخاصة لنجاح الفيلم،. ويقول يسري نصر الله إن "شاهين كان منتجًا شاطراً جداً وذكياً، وفكرة تسويق الفيلم، وجانب اليزنس في الفيلم مهم جداً بالنسبة إليه وأنا لست كذلك، وهنا باظت علاقتي به، وهذا لا يجعلني أفضل أو أسوأ، فهو لا يرى في أفلامي ما يسميه "المعادلة" وهنا بدأت خلافات شديدة بيننا (...) كان يقول لي أنت تقنياً هائل، لكن لا تعرف عمل المعادلة، وكان يرى من الجنون أن أعمل فيلماً من بطولة باسم سمرة لأنه ليس نجمًا، كان دقة قديمة يرى أن الممثل لا بد أن يكون قد حصل على تدريب المعهد وتقاطيعه تعدي، ولا يصح أن تستعين بممثل ملامحه عدوانية وليس وسيمًا بالمعنى المتعارف عليه".

وتظهر تلك المعادلة، معادلة النجاح أو تجنب الخسارة المادية، في إنتاجه من الأفلام القصيرة، والتي جاءت كلها بتكليف مباشر من جهات في الداخل أو الخارج الفرنسي شديد الارتباط بيوسف شاهين. وهي على التوالي بتاريخ إنتاجها وإخراجها: عيد الميرون (13 دقيقة – أبيض وأسود – عام 1967 لحساب الكنيسة المصرية)، سلوى أو الفتاة التي تكلم البقر (20 دقيقة – بالألوان – عام 1970 لحساب وزارة الزراعة المصرية واليونيسيف)، انطلاق (10 دقائق – بالألوان – عام 1991 1973 لحساب التوجيه المعنوي بالجيش المصري)، القاهرة منورة بأهلها (22 دقيقة – عام 1991 لحساب إحدى القنوات الفرنسية)، 11/9 (وهو جزء من فيلم جماعي لمخرجين كبار عن رؤية كل منهم لهذا الحدث، ومدة كل جزء 11 دقيقة لحساب فرنسا – بالألوان – إنتاج 2002)، وأخيرًا اسكتش ضمن فيلم جماعي لمخرجين كبار حول العالم باسم "لكل سينماه" مدة كل اسكتش 3 دقائق حول رؤيته للسينما وحلم كل مخرج فيها، وهو بالألوان الطبيعية والفيلم الإجمالي من اقتراح جيل جاكوب، رئيس مهرجان كان السينمائي بمناسبة الذكرى الستين للمهرجان.

وهي أفلام يشير محسن ويفي إلى أنها –خاصة الأول والثاني- "تحمل شحنة إعلامية وإرشادية واضحة على غرار أفلام تلك الفترة، وإن حاول مخرجنا أن يكسبها بحبكات فرعية قدراً من الخصوصية والطابع الشخصي له". وخلت كلها كذلك من الجماليات المميزة لأفلام شاهين. ففيلم "سلوى" مثلاً هو "فيلم روائي تسوده فوضى درامية وسينمائية في خطوط لا تتلاقى ولا تكشف عن موهبة كبيرة لصاحب أفلام روائية طويلة ذات شأن حتى ذلك الحين! وإن استعان أيضًا بتقاليد الفيلم التسجيلي في الإدلاء بأرقام وبيانات لم تضف شيئًا إلى حبكة الطفلة حنان والبقرة سلوى (بطبيعة الحال كانت مشاهدتي للفيلم مدهشة وشديدة العبثية وأنا أرى نسخة الفيلم مدبلجة باللغة الأجنبية حيث الفلاحين المصريين والعمال والممثلين عمالاً وأطباء ومهندسين ينطقون مع الطفلة حنا بالإنكليزية!)".



غرب عربي
وربما يبدو استنكار محسن ويفي لدبلجة فيلم "سلوى" إلى الإنكليزية في محله، فحتى لو كان العمل ممولاً من مؤسسة أجنبية تحتاج لأن يتحدث منتجها بلغة عالمية، إلا أن دبلجة النص إلى لغة أخرى يفقده هويته، ويأخذنا ذلك الطرح إلى اتهام آخر –غير التعقيد- وُجِه كثيرًا إلى أفلام يوسف شاهين، أنها تهدف بالأساس لمخاطبة الجمهور الغربي لا العربي.

وفي دراسته يرى وليد الخشاب، أن شاهين "نجح دائمًا في ربط قضايا أفلامه والتيمات التي ينسج حولها سيناريوهاته بمواضيع تشغل المجتمع الثقافي الغربي والمجتمع العربي على السواء، في سياقها المعاصر للحظة إنتاج هذه الأفلام"، وهو الربط الذي يمثل مساهمته "في نقاشات راهنة تدور في دوائر المثقفين الغربية في لحظات معاصرة لإنتاج الأفلام، بل وأحياناً تساهم في نقاشات تدور في كافة أرجاء العالم خارج الغرب أيضًا. كذلك تصبح أفلام شاهين عالمية، بمعنى أنها تصبح المساهمة الممثلة للعالم العربي في النقاش الدائر عالميًا، أي في الغرب، وأحياناً خارج الغرب، لا سيما في آسيا وأفريقيا، مثلما تناول شاهين لقضايا "الآخر".



ويقول الخشاب كذلك: "يكفي أن نتأمل عناوين أفلام شاهين في صيغتها الأصلية العربية، لنجد أنفسنا أمام سلسلة من الموضوعات التي يمكن أن نؤرخ بها لتاريخ القضايا الفكرية الملحة في العالمين العربي والغربي وفي احتكاك أحدهما بالآخر. ("فيلم الأرض 1970"، "الاختيار 1971"). في عناوين أفلامه بالفرنسية كذلك، يبدو اهتمام شاهين واضحًا بوضع أفلامه في سياق سجالات وأبحاث فكرية غربية معاصرة لتواريخ إنتاج أفلامه، بل إن العناوين تكاد تشكل في تواليها عناوين أهم المباحث الأكاديمية الغربية في العلوم الإنسانية منذ النصف الثاني من القرن العشرين، أي تقريبًا منذ بداية مرحلة ما بعد الاستعمار. مثلاً فيلم "حدوتة مصرية" يؤرخ لستينات وسبعينات شاهين، في إطار التاريخ الثقافي المصري، لكن بعنوانه الفرنسي: "الذاكرة" يلمس قضية كانت في الأكاديميا الغربية مشغولة بها آنذاك، في إطار اهتمامها بدراسة ملامح بناء الذات الفاعلة الفردية. ومن ذلك، عناوين أخرى عربية وفرنسية مثل: (الآخر 1999"، "المهاجر 1994)".

وربما يتفق روبير ريجيس، رئيس قسم الأرشيف والبحث في السينماتك الفرنسي، مع ذلك الرأي خلال حديثه للمجلة، إذ يقول إن "السبب الرئيسي لاهتمام الغرب بيوسف شاهين بكل بساطة هو أن شاهين يجيد استخدام الرموز والمصطلحات الغربية ويقدم بواسطتها المجتمع الشرقي. إنه يمثل نافذة حيوية نطل من خلالها، نحن السينمائيين في أوروبا، على المجتمع الشرقي. وبواسطة انفتاحه وإجادته لاستخدام الأدوات السينمائية الغربية فهو يمكننا من فك شفرة مجتمعكم في تقاليده وفنه وأفكاره التي تختلف تماما عن مجتمعنا".



لكن علياء طلعت ترى من جهة أخرى، أن "الصورة التي كونها الكثيرون عن يوسف شاهين معكوسة فعليًا، فهو لا يتوق لقبول الغرب له ولأفلامه بل يشعر أن هذه الكيانات السينمائية يجب أن تقدر ما يقدمه من فن". وتعدد خلال مقالها أشكال العنصرية والتهميش التي تعرض لها شاهين، وترصد وقائع تدل على ذلك، خصوصاً في مهرجان "كان".

ولا يبدو رأي طلعت بعيدًا عما شعر به شاهين نفسه، الذي يقول في حواره لجوان دوبو: "استغرق العمر مني ثلاثين عامًا حتى أحظى بدعم فرنسي، ووقت أطول من ذلك للوجود القوي في "كان". ويوم تكريمي، أدركت أني تمكنت من قلوب جمهور "كان"، وصفقوا لي طويلاً، حتى احمرّ وجهي خجلاً وحباً. ولحظتها كنت شخصيتين: تلك الشخصية التي صعدت لتسلم الجائزة، وهي في أوج قوتها، فلكي تكسر ذلك الحاجز الغربي لا بدّ أن تكون قوياً بحق. أما الشخصية الثانية فكانت جالسة في مكانها تفكر.. هل هذه هي النهاية؟ هل حانت اللحظة التي ينبغي فيها أن أعلق عدساتي إلى الحائط؟ وما هو إلا أسبوع حتى كنت عاكفًا على كتابة سيناريو فيلم جديد".


• "يوسف شاهين.. زيارة جديدة"، هو العدد الـ15 من مجلة "الفيلم"، وهي مجلة غير دورية تعني بثقافة السينما وفن الصورة، يصدرها نادي سينما "الجيزويت"، التابع لجمعية النهضة العلمية والثقافية بالقاهرة.