حامد سعيد عالميًّا.. "الفن والحياة" نظرية تجدد شبابها

شريف الشافعي
الإثنين   2018/08/13
الفن صياغة كاملة للحياة الأصلية
لمن تنصتُ الطبيعةُ إذا أرادت أن تتحسس صوتها وتتأمل مكنونها؟ ولمن تنظر إذا تمنّت أن تستكشف ذاتها، واستشعرت أن المرايا من حولها مُراوِغة مُخادِعة؟
ليس وحده التشكيلي المصري القديم هو الذي يقترح معادلًا كاملًا للحياة، وإن كان هو الرافد الأبرز لهذا الطرح الشامل، الذي يستوي بقوانينه: وجه الحياة ووجه الفن، فكلاهما ظلٌّ للضرورة والصيرورة، منذ الأزل إلى نهاية العالم.

إن ما يمنح الطبيعةَ تفسيراتٍ شافية لوجودها وتحققها ونموها وخلودها، قد يكون فنًّا ديناميًّا، شرط أن يكون اسمه الآخر "حيوية الحياة". وبعصاه السحرية، يطلق هذا الفن طاقته التي تتبلس الكتل الصمّاء، وتستنطق كل كائن بلغة الحقيقة، فيقول الإنسان، والبحر والرمل والصخر وخشب الشجرة وورقها الأخضر والنار والسحاب والدخان، شهاداتهم بأمانة، وتتعلم الأشياء الدرسَ، فتبوح بأسرارها بين يدي الطبيعة التي تنتشي، وتصل إلى ذروة العرفان.

فنانون استثنائيون، ينتمون إلى البشرية جمعاء، هم الذين انخرطوا في استكناه الطبيعة وسبر أغوارها. فصاروا هم أنفسهم، بما كشفوه من خباياها، عونًا لها في رسمها خريطتها وترصُّدها إحداثياتها المعلقة في الزمان والمكان.

امتدادًا لأجداده الفراعنة من صُنّاع الحياة وفلاسفة الطبيعة ومُشعلي الثورات ومُنظّري تطوُّر الرقي البشري، تأتي تجربة الرائد حامد سعيد (4 أغسطس/آب 1908-19 مارس/ آذار 2006)، الزاهد في محراب الفن حد التصوّف، المُجدد الذي أثرى حركة التشكيل في العالم باستغراقه في المحلية، صاحب المدرسة الباقية إلى الآن بأتباعها والمنتمين إليها من الفنانين المعاصرين والجدد.

اجتذبت نظرية "الفن والحياة" التي أسسها حامد سعيد، الحاصل على جائزة الدولة التقديرية في الفنون ووسام الاستحقاق من الدرجة الأولى، عشّاق الفن وأنصار الحياة معًا. فالاحترافية التي بلغ قمتها بالدراسة في أوروبا، ليست نهاية المطاف، والصبغة الأكاديمية مجرد هيكل وأدوات مساعدة لا تعني شيئًا وحدها.

أما المناهل الحقيقية للإبداع فهي: حركة الحياة، وتأملات الوجود، وتفاصيل الأحداث اليومية، والانشغالات التصوفية، والتماعات المتعبدين، والمسكوت عنه من العلاقات الخفية بين الموجودات، ورحيق الحضارات القديمة وعلى رأسها الحضارة الفرعونية، إلى جانب الوقود المفجّر للفن، وهو روح الشخصية المصرية بخلطتها الخاصة وتركيبتها الفريدة.

المعنى الجوهري للتمرد والثورية في مدرسة "الفن والحياة" ينبني على تخليص المنتج الإبداعي من عزلته وغموضه، ليلتحم بالمتلقي بقدر استيفائه شروط الحياة وعناصرها الغنية المتقدة. فالفن اقتحام واحتجاج ومقاومة وجدل إيجابي بنّاء مع القائم، من أجل خلق جديد أفضل. هذا هو المعنى الثقافي للثورة لدى حامد سعيد، وعند جماعات التشكيل وتياراته المتأثرة به في العصر الحديث، خصوصًا بعد ثورة يناير 2011، التي أعادت الصلة بين حركة الفن وحركة الشارع المصري من خلال الغرافيتي والجداريات والملصقات والمعارض المفتوحة.



من مفارقات حامد سعيد المدهشة، أن العالمية في تجربته التي أحدثت أثرًا في حركة التشكيل، هي ببساطةٍ رفضُ ما هو عالمي، وإبحار ضد التيار، فالرجل الذي وصفه نقّاد الفن في بريطانيا وإيطاليا بـ"صاحب المنهج الابتكاري شديد التميز في الإحساس بالطبيعة والتفاعل معها"، يكسر القوالب الجامدة، ويتجاوز المذاهب الوافدة.

لقد قدم الفنان الذي سبق عصره، خبراته، من خلال الهوية المصرية الثقافية والفنية، رافضًا اتباع ما هو جاهز ومنتهي الصلاحية من المنجز الغربي الذي لا يتناسب مع السمات الشعبية، وجاء ذلك متماشيًا مع سلوكه الحياتي، إذ رفض كثيرًا من مظاهر الحضارة المدنية، مفضلًا العيش على الفطرة بلا كهرباء ولا هاتف ولا تلفزيون.

الفن صياغة كاملة للحياة الأصلية، الأصيلة، كما ينبغي أن تكون، وليس مجرد مسعى موازٍ لها. كما أنه إعادة بناء للشخصية المصرية، بمقوماتها الحضارية المثالية، وعناصر قوتها وتفردها، التي تحدث عنها جمال حمدان. فمن خلال الفن، تتجلى تراكيب هذه الشخصية، ويحيل الموروث إلى اكتشاف قدرات البشر الكامنة، وإمكاناتهم المحجوبة.

حصّن حامد سعيد نفسه بالطبيعة البكر والمنزل الريفي البدائي الذي يعيش فيه (بتصميم المعماري حسن فتحي)، ضد غوايات المادية، وضد المناهج الأكاديمية والاتجاهات التعبيرية والسريالية، وغيرها من مدارس الفن الغربي الحديث. وصارت تأملات الوجود وتمثلات الحضارات القديمة واستلهام الحياة المباشرة، معابرَ إلى الإلهام المشحون بدفقات التصوف، ليتحقق النظام في الفن من تلقاء ذاته، مثلما أنه متحقق في قوانين الطبيعة.

تَحَرّر الإنسان، لدى مؤسس جماعة "الفن والحياة" في أربعينيات القرن الماضي، من كونه مركزًا للكون مثلما تعتبره الحضارة الغربية، ليتجاوز الفن فرديته وانعزاله وهامشيته، ليعود إلى تيار الحياة الرئيسي، معبّرًا عن الذات الجمعية من خلال التصورات الشخصية، ومُشبعًا المتطلبات والاحتياجات الإنسانية من الجماليات والقيم البصرية والروحية.

الطاقة دائمًا هي محور العمل ومركز الرؤية في لوحات حامد سعيد. فهو في اكتشافه الشخصية الشعبية مثلًا، لا يعنيه التقاط الشكل الخارجي والطقس الاجتماعي الذي يصوّره، وإنما ينصبّ اهتمامه على الإضاءة الداخلية والتوثبات النفسية التي تخلق وجودًا فوقيًّا للكائن الآدمي يعلو وضعيته الأرضية.



هكذا يصور أيضًا الخيول في جموحها وانطلاقها خارج المدارات المتوقعة، والنساء في وطئهن الصخور على حافة الشاطئ، بصدور عارية، والأشجار في تحوّلها إلى أمهات محتضنات أجنة وأعشاش طيور. فالتعبير هو استشراف روحي لبلوغ المغاليق في الكون المادي المتسع للكائنات والموجودات جميعًا، ولكل كتلة فرصة مكتملة للنطق بلغتها، حتى وإن كانت حجرًا أصمّ.

بساطة حامد سعيد، وتلقائيته، وزهده في أسلوب حياته، انعكست في أعماله وآليات اشتغاله. فهو يقدم إشراقاته التصوفية بالرصاص على الورق، وتتسم أقلامه الخشبية وألوانه المائية على الورق والخشب، بالهدوء والشفافية والإيقاع الهامس واستخدام درجات الظلال والابتعاد عن البهرجة والصخب، فضلًا عن الاقتصاد في التعبير، والإفضاء بأقل القليل من العناصر.

أما بيته الريفي المسمى "بيت الفن والحياة"، فقد شيده المعماري البارز حسن فتحي، وأقام فيه حامد سعيد حتى رحيله، وشهد العصر الذهبي لجماعة الفن والحياة، التي أرست معايير مختلفة للفن التشكيلي في مصر والعالم خلال أربعينيات القرن العشرين.

وعلى الرغم من تعرض بيت الفنان الزاهد للهدم في 2011، فإنه يظل خالدًا لأمرين؛ الأول: تلك اللوحات الفذة التي رسمها حامد سعيد من وحي الأشجار المتشابكة في حديقته، وهي أخصب وأعمق أعماله الفنية، التي يوازن فيها بين الجماليات البصرية، والترددات اللونية، وفلسفة الصورة، وما وراء المعنى من تأملات وإرهاصات. والأمر الثاني: أن بيت حامد سعيد "الفطري" كان ملتقى لجماعة الفن والحياة، وتطورت فكرة هذا الملتقى لاحقًا إلى إنشاء "مركز الفن والحياة" بمعرفة وزارة الثقافة المصرية، وهو لا يزال يمارس نشاطاته حتى اليوم. وقد تأسس المركز في العام 1969، ويعنى بالبحث في هوية الشخصية المصرية الأصيلة، وربط الفن بالحياة في جميع المجالات اليومية ومجالات الإبداع المختلفة (التشكيل، الطباعة، الزجاج، النسيج، التطريز والحياكة والأزياء، وغيرها).

ويبقى جانبان كبيران يبرزان أصالة حامد سعيد كنموذج للمثقف العضوي الواعي، المنفتح على بيئته ومجتمعه، أولهما: انفتاحه على الموروث المصري القديم ورحيق الحضارات الإنسانية. وثانيهما: تواصل تجربته ومدرسته الفنية مع الأجيال التالية من التشكيليين.



في نظرية "الفن والحياة"، كثير من وجوه الفلسفة لدى الفنان المصري القديم، منها أن الفن احتفاء بالأمل وانتصار لحيوية الحياة والإنسان. فالبيئة المصرية هي تلك الشمس الساطعة والسماء الصافية والوادي الأخضر والبشر الطيبون. والفن، وإن كان نقوشًا على جدران مقابر، يعكس تجليات هذا النشاط المنتعش للبشر المنطلقين، والطيور المحلقة، والأسماك السابحة، وأوراق الشجر الحافظة لذاكرة الأرض، والنجوم والكواكب المجسدة لدورة الحياة.

مثل هذه النظرية التي أرسى دعائمها حامد سعيد، بجذورها الحضارية لدى الفراعنة وغيرهم من حُماة التاريخ، لم تكن لتُطوى بعد رحيله أو يجرفها النسيان إلى هاوية. فقد استمرت انعكاسات "الفن والحياة" لدى الكثير من التشكيليين المعاصرين والجدد، الحريصين على إثبات هويتهم المحلية وجذورهم الشعبية، والتعاطي بحذر مع التيارات الغربية الجاهزة.

ومن أبرز الجماعات الحديثة التي تتقاطع مع نظرية "الفن والحياة"، على سبيل المثال، جماعة "اللقطة الواحدة"، وتضم عددًا كبيرًا من التشكيليين الشباب المعنيين بالالتفات إلى الفن المصري القديم ومظاهر الحياة اليومية في المجتمع على نحو تلقائي، من خلال تصاوير سريعة متدفقة يرسمونها في أمكنة مفتوحة، وتمتزج فيها روح الهواية واللمسات الاحترافية.

الوجه الثقافي والجمالي للثورة، في نظرية "الفن والحياة"، يقترب كذلك من الأعمال التي يصورها رسامو الغرافيتي والجداريات ولوحات الميادين والمعارض المفتوحة وفنانو الكوميكس، وقد انتشرت هذه الرسوم على نطاق واسع بمصاحبة ثورة 25 يناير 2011، وما أعقبها من أحداث سياسية ومجتمعية.

على صعيد فردي أيضًا، يستند الكثير من المصورين والنحاتين، من أجيال مختلفة، إلى أبجديات نظرية "الفن والحياة"، بخصوصيتها الفلسفية والجمالية، وعمقها المصري المحوري، كما في أعمال إيفيلين عشم الله الملتحمة بالذاكرة الشعبية وأطياف السحْر والأساطير، وصلاح عناني المنحاز إلى الحارة والبسطاء، الرافض للاتجاهات التغريبية، وسماء يحيى المشغولة بموتيفات الوجوه والطقوس والعرائس المصرية، وسيد سعد الدين المنخرط في أجواء التصوف والعبادات والإشعاعات الداخلية النورانية، وغيرهم.

ذكرى ميلاد حامد سعيد الـ110، ليست مجرد حدث عابر، فبقدر ما يظل الفنان محلقًّا في فضاء العالمية بأفكاره الطليعية ورسومه الابتكارية، بقدر ما تتجلى نظرية "الفن والحياة" مجددة شبابها في المشهد الراهن.