مسيح هولبين والمسيح السوري

محمد حجيري
الأربعاء   2018/08/01
"جسد المسيح الميت" للفنّان الألماني هانز هولبين (1497 -1543)
أخيراً قرأت "الأبله" لدستويفسكي، الرواية التي اعتُبرت الأكثر ذاتية. فهي من أكثر الروايات التي بحثت في القيم الانسانية والمبادئ الأخلاقية من خلال شخصية "الأمير ميشكين" والذي تقارب شخصيته، المسيح ودونكيشوت، كما حللها بعض النقاد.

قدم دوستوفسكي نقداً للمجتمع الحديث وما يمثله من قيم عقلنة وضبط وإقصاء. فمن يصفه المجتمع بـ"الأبله"، لم يكن سوى إنسان أراد أن يعيش حياته بكامل مشاعره بين الناس. ما لفتني في الرواية ليست قصتها، ولا الأمير ميشكين، ولا انغماس دستويفسكي في القضايا الإنسانية، بل أثر لوحة فنية في الكتابة. فحين كنتُ أبحث عن معلومات حول الرواية، قرأت تعليقاً لآنا، زوجة دوستويفسكي، عن تأثير لوحة "جسد المسيح الميت" للفنّان الألماني هانز هولبين (1497 -1543)، في شخصية دوستويفسكي. يقول التعليق: "في الطريق إلى جنيف، توقفنا ليوم واحدٍ في بازل، وفي نيتنا أن نرى اللوحة التي سمع بها زوجي من أحدهم. هذه اللوحة المرسومة بريشة هانز هولبين، تصوّر المسيح بعدما قاسى من العذابات ما يفوق طاقة البشر، وقد أنزل من الصليب وأُسلم للتحلل والعفن. وجهه المنتفخ مغطى بالجراح الدامية، وقد بدا مفزعاً. اللوحة تركت انطباعاً هائلاً على زوجي، ولقد توقف أمامها كما لو أنه مصعوق. بعدما عدت إليه بعد ما يقارب 15 إلى 20 دقيقة، وجدت زوجي لا يزال واقفاً أمام اللوحة كما أنه مربوط بها. بدت على وجهه المهتاج تلك الملامح المفزوعة التي اعتدت أن أراها في اللحظات الأولى السابقة لنوبات الصرع التي تداهمه. أسرعت بإمساكه من تحت ذراعه، وأخذته إلى غرفة أخرى، وأجلسته على كرسي، مترقبة في أي لحظة مجيء نوبة الصرع، لحسن الحظ أنها لم تأت".

في هذه اللوحة لهانز هولبين المتأثر بالحركة الإنسانية، في عصر النهضة، نجد أن الجسد ليس سوى عظم وجلد، وأن العينين مفتوحتان بصورة رهيبة، لا تريان ولا تعبّران عن شيء، والشعر أشعث، والفم فاغر في جهد أخير للتنفس. في ذراعيه وفخذيه جروح عميقة متورمة. في وجهه آثار تعذيب رهيب. كل هذا يبدو موتاً لا رجعة فيه.


لم يعد المسيح في لوحة هانز هولبين، كما في التراث المسيحي، إلهاً يكسو وجهه جمال أخاذ بعد إنزاله من الصليب. بل هو إنسان تعرض للموت، والموت فقط. وقد علق ديستويفسكي قائلاً: "إن هذه اللوحة.. قادرة على أن تُفقد المرء إيمانه دفعة واحدة!". ما فعله الفنان الألماني أنه قدم رؤيته للموت التي يمكن أن تخيفك وتحبطك، وتزعزع يقينك.

الهدف من الكلام عن هولبين ليس لوحته بذاتها، بل في تماثلها مع الواقع المر والقاسي والمرعب. فحين نرى اللوحة، نتذكر المئات من السوريين الذين قتلوا تحت التعذيب وسُرّبت صورهم عبر الانترنت قبل مدة. لنقل أن قلة من الفنّانين صوّت مصير الإنسان بمثل قسوة هولبين، لكن القسوة في ظلال البعث الأسدي تبدو أمراً روتينياً ويومياً في السجون. يتفنن وحوش السجون في أنواع التعذيب وصناعة الموت والرعب، حتى ان الولايات المتحدة تحدثت عن محرقة داخل سجن صيدنايا. الاستبداد السوري صَلَب المعتقلين في سجونه، بمعنى من المعاني، وتركهم يتألمون ويتضورون جوعاً حتى أصبحوا مثل مسيح هولبين.

لا أعرف إن كان أحد الكتّاب، قارن كتابياً بين لوحة هولبين المتخيّلة، والصور الحقيقية لضحايا الاعتقال والتعذيب في السجون الأسدية. لوحة هولبين، بشكل من الأشكال، تؤدي إلى فقدان المرء ايمانه، وصور سجون الأسد تجعل المرء يتوتر ويخرج عن طوره، وربما يتبلّد ويفقد حواسه. لكن يبدو أن المجتمع الدولي، عاشق شعارات "لم نسمح بتجاوز الخطوط الحمر"، ينغمس في تعويم نظام بشار الاسد، ويتناسى ما حصل في سجونه ومدن بلاده. هي لعنة السياسة والصفقات، تجعل كل شيء كأنه لم يكن.