"أشيائي المفضلة": إعادة التدوير كفنٍّ.. ومصنع للأسئلة
يضم المعرض في نسخته الثالثة، أعمال الفنانات اللواتي شاركن في مشروع "من المهمل إلى الثمين"، وهو برنامج إرشادي مخصص كلياً لفن إعادة التدوير، نظمته غاليري مشربية للفن المعاصر، العام الماضي. باستخدامهن المهمل من الزجاج والورق والأخشاب، تعبّر الفنانات عن رؤية فنية خاصة، تكون فيها حياة المدينة، بمبانيها وسياراتها مكملة للمساحات الخضراء، ومنشآت شبيهة بالغابات.
في المدينة، الشباك الأول، كما سمتها الفنانة رانيا عاطف، يظهر مشهد المدينة تحجبه أطباق الستالايت في برج مرتفع، كأنها جنود جاثمون أعلى أسطح الأبنية، يوجهون أنظارهم في ذلك الاتجاه بعدما سقطت المدينة في أيدي الغزاة منذ سنوات. حضور تلك الصحون اللاقطة، يطغى كشاهد على الهوية الاستهلاكية، التي بدورها أنتجت تلك الأبنية المتنافرة والتي تفتقر إلى الهوية ولا تمثل سوى كتلة ضخمة تملأ الفراغ.
الناظر إلى مدينة عاطف، المكونة من بقايا الورق المقوى، وعلب الكرتون الفارغة بألوانها المحايدة الباهتة، يستعيد المباني الموجودة في القاهرة أو في أي مدينة أخرى تشبهها، مدينة غارقة في الكآبة والغبار، لا يستطيع المتفرج التأكد إن كانت مدينة مهجورة، أم أن سكانها توقفوا عن الحياة، وتحولوا إلى كائنات تعيش تحت سطوة الاستهلاك الذي أصبح المقدس الوحيد في تلك المدينة المعزولة عن العالم، المكونة من تجمعات صغيرة مركبة ومتراصة. يمكن للمتفرج أن يلمسها بيده، وفي الوقت نفسه يمكنه أن يسرح في ضواحيها من بعد. إذ تعطي للمتفرج كامل الحرية في تخيلها كيفما يشاء.
كان يمكن للعمل أن يصبح عملا تفاعليا، إذا سمحت الفنانة للمتفرجين بتغيير وضعيات البيوت والمباني ليضع كل منا تخيله الشخصي عن المدينة التي أمامه، لتتحول المدينة في نهاية الأمر إلى مدن لا نهائية، في مخيلة كل منا.
في الجزء الثاني من أعمال المعرض للفنانة كاملة بسيوني بعنوان "بلا مكان"، يتواصل سؤال الهوية، فتتساءل بسيوني عن كنه المكان وجوهره: مكان عبور أم شيء دائم؟ فندق أم بيت؟ منفى أم وطن؟ مقيم أو نازح؟ مكان مؤقت أم مستقر؟ ملجأ أم مكان المنشأ؟ سفر أم منطقتك الخاصة؟
المنزل هو المكان الذي يبدأ منه الفرد، ويشعر بأنه ينتمي إليه. في "بلا مكان"، تبحث بسيوني عن معان أخرى للوطن، وكذلك تبحث عن الفارق بين أن يكون المرء جزءاً منه، أم لا. حيث ترى بسيوني أن الكثير من دول العالم يعاني عدم الاستقرار، الذي أدى إلى انحسار الشعور بالأمان لدى الشعوب، فأصبح عليهم الاختيار ما بين البقاء في وطنهم الأصلي أو السفر والهجرة بحثا عن الأمان.
من خامة الورق المقوى وعلب الكرتون، تبني بسيوني مدينتها ومنازلها الخاصة، لكنها مدينة تستقر بشكل أفقي، داخل صندوق أبيض كبير، ما يسهل عملية نقلها من دون تفكيك أو تغيير في معالمها، بالإضافة إلى كونها مدينة ملونة إلى حد ما، يظهر فيها احتفاء ما بالطفولة أو الحنين إليها وإلى منازل الجدات والأسواق الشعبية. بينما تخبو تلك البهجة إلى حد كبير عندما ننتقل من الكل الكبير إلى النظر لكل شخص من شخوص بسيوني على حدة.
وضعت بسيوني شخوصها داخل مكعبات تشبه الزنزانة إلى حد كبير، زنزانة صغيرة وضيقة، لا تسمح للشخوص المعلقين داخلها بالحركة. يمكن النظر إليهم وكأنهم تجسيد لمآسي الإنسان المعاصر الباحث باستمرار عن هويته، عن مستقبله، عن تمثله الشخصي ورغباته الفردية، وفرديته التي يحاول العقل الجمعي كبتها وتحويلها إلى مجرد تِرس صغير في ماكينة المجتمع.
في أحجام أخرى أكبر، تستخدم بسيوني السلك والكرتون لتحولهم إلى شخوص شائهين، بنظرات منكسرة حزينة، وأجساد ثقيلة متصلبة، وكأنهم الحياة بأكملها هي الامتداد الأكثر اتساعا للزنازين الصغيرة، التي وضعت بسيوني شخوصها بداخلها. الحياة التي تمنع الفرد من اختبار نفسه في كامل أبعاد إنسانيته.
يمكن اعتبار أعمال كاملة بسيوني ورانيا عاطف، أعمالاً تقوم على خامة زائلة هي الورق المقوى والكرتون، بينما جوهر الفكرة أكثر بقاءً والتصاقاً بسؤال الوجود المستمر منذ وقت طويل في الفن المعاصر.
في الجزء الثالث من المعرض، وفي أعمال الفنانة أفروديت السيسي التي تواصل عملها في إعادة تدوير الزجاج، تلك الخامة التي توصلت من خلالها إلى أن القمامة ما هي إلا مواد مهدورة، وأن كلمة folige أصلها من المفردة الفرنسية feuillage، أي أوراق الأشجار. وأن أحد معاني كلمة folige هو "التزيين من خلال الرسم أو الزخرفة المعمارية لتصوير أوراق الأشجار، وفروعها، وزهورها". وهو جوهر هذا المشروع الذي يهدف إلى الاهتمام بالطبيعة وبجوهر فكرة إعادة التدوير.
جاءت الفكرة الأساسية للسيسي في محاولة لإقناع المتفرج، بالحفاظ على الطبيعة والمساهمة في نشر اللون الأخضر عن طريق استخدام الزجاجات الخضراء اللامعة المنصهرة والمعاد تدويرها لصنع أوراق الشجرة، واستخدام الزجاجات البنية لتشكيل الجذع الخاص بها. لكن بالتأكيد الفكرة وحدها ليست هي الأساس في الفنون البصرية، إذ يجب أن يصاحب الفكرة تنفيذ مبتكر، يضع المتفرج على المحك مع التساؤلات التي يطرحها الفنان، الأمر الذي لم توفق فيه الفنانة أفروديت السيسي، فجاء تنفيذها للعمل بعنوان "الشجرة" طفولياً ومسطحاً وخالياً من التأويلات والتساؤلات، وأقرب إلى الرسوم المدرسية، رغم أن خامة الزجاج المصهور تعتبر خامة شديدة المرونة ولها قدرة كبيرة في التشكل والتطويع، تبعاً لعمق فكرة الفنان وطريقة استخدامه لتقنية صهر الزجاج نفسها.
الجزء الأخير من المعرض خاص بالفنانة مليكة حسن، التي تعمل على تحويل المواد المهملة إلى منتجات ذات فوائد اقتصادية وبيئية، وتستخدم وسائل تصنيع فعالة لإحياء تراث المنتجات المصنوعة يدوياً، وتسعى إلى تصميم واختبار وعرض الاحتمالات الممكنة لاستخدام الخامات شديدة التحمل في تصميماتها، بالإضافة إلى الترويج للاهتمام بالطبيعة، واتباع أسلوب حياة أكثر مسؤولية تجاهها.
جاءت غالبية أعمال حسن المعروضة، باستخدامها لأخشاب الأشجار في صورتها الأولية، وحولت جذوع الأشجار إلى وحدات إضاءة مبتكرة، أو حاملات للطاولات الزجاجية ببقايا الأخشاب المهملة. لكن بالطبع لا يمكن إخفاء النزعة الديكورية أو التزيينية في أعمال حسن، لأن كل أعمالها المعروضة تحمل طابعاً وظيفياً، أو يمكن أن يؤدي دوراً ما في الحياة اليومية، الأمر الذي يصنع الفارق الجوهري بين الفن الذي صنع فقط لغرض جمالي أو هوياتي أو ليفجر التساؤلات لدى المتفرج، والقطع التي صنعت لغرض تجميلي فقط. لكن، في نهاية الأمر، تقوم أعمال الفنانات الأربع على الفكرة الرئيسية لإعادة التدوير، التي بدأها غاليري مشربية منذ أكثر من عام، بالرغم من اختلاف الأعمال جوهرياً وتقنياً.