فنانون مصريون في لندن: هيا نعبث بالضعفاء!

شادي لويس
الجمعة   2018/07/27
لا وازع أخلاقياً أو قانونياً.. وكله باسم "الفن"
في الصالة الرئيسية من الدور الأول لغاليري "الموزايك روومز" في لندن، ينتصب مجسم لمربع من شوارع وسط القاهرة، بعماراتها وأطباق الدش على الأسطح، وسيارات التاكسي السوداء بجانب الأرصفة، والمقاهي بكراسيها البلاسيتكية، واسلاك الكهرباء الممتدة من مبنى إلى مبنى، والكل مغطّى بطبقة كثيفة من الغبار.

مجسم "المواطنون المثاليون" من إنتاج العام 2008، هو واحد من الأعمال الفنية المعروضة في معرض "ماذا تعني، ها نحن هنا؟"، والذي يحتفي بمرور عشرين عاماً على إنشاء غاليري "تاون هاوس" في القاهرة (1998- 2018)، ويعرض مجسماً مصغراً للمنطقة التي يقع فيها الغاليري وسط المدينة.



في المعرض نماذج من الأعمال الفنية والفاعليات التي قدمها "تاون هاوس"، أحد أوائل المساحات الفنية المستقلة في القاهرة، نهاية التسعينات. ويرصد تغيّرات العقدين الماضيين في القاهرة، ومشهدها الفني المستقل. وفي ذلك، يطرح وجبة دسمة للعين "الغربية"، فإلى جانب تشكيلة من الأعمال الفنية المعروضة لمصريين وأجانب شاركوا في معارض "تاون هاوس"، تعرض شاشة تسجيل فيديو طويل من كاميرا مثبتة أمام مقهى "التكعيبة" المجاور لـ"تاون هاوس". وتأتي المفارقة بين الغاليري والمقهى المتواضع المجاور له، بتأثيرها، في اللعب على تيمات الفرادة، والاشتباك مع المحلي في الوقت ذاته. وتستكمل النظرة الفوقية، التي تعرضها زاوية الكاميرا التي تنظر من أعلى إلى المقهى، بلغة البطاقات التعريفية. فمعظم الأعمال المعروضة، اُلحقت نبذات بها، تعيد تكرار مصطلحات: الفوضى، والخطر والقمع والرقابة والحذف، وسلسلة طويلة من التركيبات اللغوية التي لا تكتفي فقط بتصوير القاهرة بوصفها غابة للرعب والخطر فقط، لكن تضفى أيضا على "تاون هاوس" ورواده، مسحة استثنائية من البطولة. 


ويعرض في الدور الأرضي من المعرض عدد من اعمال الفيديو، اختيرت بعناية، من بين مجموعة من الأعمال "المثيرة للجدل". ففي فيديو بعنوان "ميتانويا" من إنتاج (2009)، تعرض الفنانة المصرية نيرمين همام، المقيمة في لندن، سلسلة من الصور والمقاطع المصورة، لنزلاء أحد المصحات النفسية في مصر. وتضيف البطاقة التعريفية بالعمل، إنه اثار ضجة، وحُذف الكثير من المشاهد منه بواسطة السلطات. لا تشرح البطاقة كيف استطاعت الفنانة الدخول لتلك المصحات والتسجيل فيها لشهور، وكيف حصلت على تصريح بنشر عشرات الصور والفيديوهات لعشرات المرضى العاجزين، وهم يأتون بحركات عصبية مكررة. تضيف المقاطع من أفلام بروسلي ورقصات هند رستم، التي اضافتها الفنانة إلى فيديوهات المرضى المساكين، إحساس عميق بالتقزز من عملية الاستغلال التي تعرض لها نزلاء المصحة من دون إرادتهم بالطبع. لكن القاهرة تبدو مكاناً مناسباً للعبث بالمرضى النفسيين، واستغلال صورهم في الاعمال الفنية التجريبية، فبالتأكيد لم تكن الفنانة لتسطيع تصوير نزلاء مصحة في لندن التي تقيم فيها، ولا توظيف صورهم بهذا الشكل.

أما فيديو آمال قناوي، بعنوان "صمت الخرفان" من إنتاج 2009، فـ"تستأجر" فيه الفنانة عددا من عمال التراحيل، وتطلب منهم أن يزحفوا على أيديهم وأرجلهم في طابور طويل في شوارع وسط القاهرة، وتتقدمهم وهي تقودهم منتصبة في شارع شامبليون. ويظهر على المؤدين وعلى ملابسهم البؤس الشديد وتواضع الحال، ولا يصعب تصور اضطرارهم لقبول بتلك المهمة، لحاجتهم الشديدة للمال. ويبدو أن العمل الذي أراد أن يصدمنا في حالة الانسحاق الذي يولدها الفقر، لم يقلق صاحبته بشأن أنها، هي نفسها تستغل أناساً حقيقيين وتهدر كرامتهم إلى أقصى حد، طالما يخدم هذا اغراضها "الفنية". وتبدو القاهرة هنا أيضاً مكاناً فريداً للعبث بالفقراء، ففيها لا تحتاج ممثلين محترفين أو هواة ليقوموا بأدوار الفقراء، بل يمكن تأجير فقراء حقيقيين ومرمغتهم أمام الكاميرات كما تشاء بعشرين جنية فقط، أي بأقل من دولار ونصف دولار للفرد بسعر اليوم.



وإلى جانب هذه الأعمال، يقف فيديو لأيمن رمضان، الفنان المصري، المقيم في سان فرانسيسكو، بعنوان "إفطار"، والذي يستكشف فيه العلاقة بين إفطار رمضان، ولوحة "العشاء الأخير" لدافنشي. ولا يبدو أكثر مناسبة لفعل هذا سوى ترتيب مجموعة من عمال الغاليري، و"البوابين" من البنايات المجاورة بملابسهم الريفية، في أوضاع "جمالية"، تطلبت بحسب اشتراطات الفنان، أن يفطروا بعد يوم طويل من الصيام، وقوفاً، بينما تصورهم الكاميرات.

وبالرغم من أنه لا يبدو واضحا إلى أي مدى كان يمكن لعمال الغاليري، أن يرفضوا طلبات الفنان، بالأخذ في الاعتبار التفاوت في علاقات القوة بينهم وبينه، إلا أن سؤال الأخلاقية في هذا الفيديو ليس ملحاً كسابقاته. لكن ما يقدمه العمل في سياق المعرض كله، يبدو تأكيداً على وضعية القاهرة كساحة للعب الفني، وإثارة الجدل، حيث يمكن العبث بالضعفاء والعاجزين والمضطرين، وتشكيلهم وتوضيعهم بالشكل المناسب، مع الحد الأدنى من الوازع الأخلاقي او القانوني.