العمل كأحد أشكال الهراء الرأسمالي

يارا نحلة
الأربعاء   2018/06/06
الرأسمالي...ستيف كوتز
"هل هناك ما هو أكثر إحباطاً من أن ينهض المرء يومياً لأجل تأدية مهمة يعرف في قرارة نفسه أن لا حاجة لها.. أنها مجرد مضيعة للوقت والموارد؟". إن هذا التساؤل الذي طرحه الأنتروبولوجي دايفيد غرايبر منذ سنوات في مقالٍ حول ظاهرة العمل التافه، (أي العمل الوهمي، أو كما يدعوه الناشط الأناركي "الهراء")، دفعه إلى صياغة "نظرية في الوظائف التافهة"، وهو عنوان كتابه الجديد الذي يبحث في عبثية الرأسمالية العصرية وتناقضاتها.

يعكس سوق العمل أحد تناقضات الرأسمالية التي بالرغم من إخلاصها للنهج النفعي، فإنها لا تمانع إنتشار وظائف غير لازمة، وصرف رواتب عمال كان بالإمكان الإستغناء عنهم. وفي هذا الإطار، يسترجع غرايبر توقعات المنظّر الإقتصادي جون كينيس في العام 1930 حول بلوغ البلدان الكبرى، مع نهاية القرن الماضي، درجة من التطور التكنولوجي تسمح بإستبدال القسم الأكبر من العمل البشري بالآلات. وقد كان كينيس متفائلاً الى حدّ الإعتقاد بأن أسبوع العمل في قرننا الحالي سيختزل إلى 15 ساعة فقط.

لكننا إلتجأنا إلى التكنولوجيا نفسها من أجل إختلاق وظائف جديدة. فلماذا لم تتحقق نبوءة كينيس الطوباوية؟ الإجابة بالنسبة لغرابير ليست في الميدان الإقتصادي، وإنما في الميدانين السياسي والأخلاقي. فالشعوب المنشغلة بما يشبه العمل هي حتماً أقلّ ميلاً إلى الإنتفاض. وفي تعريفه للعمل التافه، يقول غرايبر "إنه شكل من العمل المدفوع الذي لا قيمة أو هدف أو لزوم له، والذي لا يرى العامل نفسه مبرراً لوجوده، بالرغم من إضطراره إلى الإدعاء بعكس ذلك".

إن التكاثر السرطاني لظاهرة الأعمال التافهة تدفع غرايبر إلى وصفه بـ"جرحٌ في روحنا الجماعية". يدعم هذا التشخيص الدراماتيكي بإحصاءات تشير إلى إعتقاد 37%من البريطانيين و40% من الهولنديين الذين تمّ إستفتاؤهم بأن "عملهم لا يؤدي أي مساهمة للعالم". يستعرض الكاتب بعض الحالات المتطرفة التي تجسّد هذه الظاهرة العالمية. فيذكر موظفاً إسبانياً يعمل لصالح القطاع العام، تخلّف عن عمله لستّ سنوات كي يتفرّغ لدراسة فكر الفيلسوف اليهودي باروخ سبينوزا. اللافت هو أن أحداً لم يلحظ غيابه طوال هذه المدّة، ذلك أن عمله لم يكن يقدّم أي خدمة تذكر.

يقسم غرايبر الوظائف التافهة إلى 5 أنواع: "الخدم"، وهم الذين تقتصر مهمتهم على جعل شخصٍ آخر يبدو بموقع جيد. المثيل الرأسمالي العصري لخدم البلاط اي عاملة إستقبال تتلقى إتصالاً واحداً في النهار،  فتلقي المدير هذا الإتصال بنفسه ليس جيداً لصورة الشركة. في الخانة الثانية يأتي "الحمقى"، وهؤلاء يعملون في مجالٍ ما فقط لأن بعض الأشخاص مثلهم، كحال محامي الشركات الذين لا حاجة إليهم إلا لأن الجميع لديه منهم. الأمر نفسه ينطبق على العاملين في الإعلانات والعلاقات العامة. الفئة الثالثة يدعوها الكاتب "معلّقو الشريط اللاصق" الذين توظفهم الشركات لتنظيف الأضرار الناجمة عن خطأ ما عوضاً عن إستئصال المشكلة من جذورها. يضيف إلى ذلك فئة الموظفين الذين يمضون معظم وقتهم في ملء الإستمارات التي ترمى في الأدراج فور إنجازها. وأخيراً، "المشرفون" الذين، بعد إدراكهم أن لا حاجة لهم، يقومون بإبتداع مهام لتبرير وجودهم، ما يخفض إنتاجية الآخرين عوضاً عن تعزيزها.

وفي تفسيره لهذا العارض الرأسمالي، يدحض غرايبر الحجة القائلة بأن هذه الظاهرة هي حكر على القطاع العام. فالفارق بين القطاعين العام والخاص بالنسبة له لا يكمن في إنتاج الوظائف التافهة أو عدمه. بل إن الميزة الوحيدة التي يتمتّع بها القطاع الخاص هي ممارسته الرقابة والإشراف على هذه الوظائف. كما أن سياسة "الفعالية" التي تعتمدها الشركات الخاصة في توفير الوقت والموارد، تفرض غالباً على موظفي الدرجات الدنيا حصراً، أي أولئك الذين "يصنعون، يصلحون، وينقلون الأشياء فعلاً". إن هذه الفئة من العاملين هي الأكثر عرضة لعمليات التقليص والصرف، وذلك بالتزامن مع إفتتاح مناصب إدارية جديدة في أعلى الهرم.

عليه، يرفض الكاتب التسليم بثنائية الدولة-القطاع الخاص في سنّهما للسياسات الإقتصادية. فالتراتبية والبيروقراطية التي تشتهر بهما دول كالإتحاد السوفياتي ليستا بعيدتين عن واقع الشركات الخاصة. كذلك الأمر بالنسبة لسياسة "التوظيف للجميع" التي اعتمدها الإتحاد السوفياتي وهو ما توعّدت الرأسمالية عدم تكراره. لكن "على غرار الأنظمة الشيوعية التي خلقت ملايين الوظائف البروليتارية التافهة، إنتهت الأنظمة الرأسمالية بخلق ملايين الوظائف الإدارية،" يستنتج غرايبر.

يقتبس غرايبر عن الأديب الروسي دوستويفسكي قوله بأن الوسيلة المثالية "لسحق إنسان وتعذيبه بوحشية هي بإعطاء عمله خاصية إنعدام الجدوى إلى حدّ العبث". يدرك الجميع عبثية سوق العمل وتفاهة وظائفه، لكنهم لا يحسنون الفرار من حلقته المفرغة، مع إعتبار العمل فضيلة قائمة بذاتها، بصرف النظر عن غايته النهائية. ويبقى الشعار الوحيد الذي يتفق عليه اليمين واليسار هو "المزيد من الوظائف"، مع تحوّل معظم الاقتصادات إلى "مولدات ضخمة لإنتاج الهراء".