راؤول هاوسمان... شهوانية الجسد بعين دادائية

جوزيف الحاج
الإثنين   2018/06/04
في منفاه، هرباً من النازية، استحضر هاوسمان "الجزيرة المنسية"، ليصبح بدوره منسياً
نبشُ أعمال الألماني راؤول هاوسمان Raoul HAUSSMAN (1886- 1971) وعرضُها في بلده، وفي عواصم عالمية، آخرها باريس، أظهر فناناً متميزاً وفيلسوفاً وشاعراً، ساهم في الحركات الفنية الرائدة التي طبعت القرن الماضي. بقيت أعماله مجهولة لفترة طويلة. لقّبه مؤرخو الفن المعاصر بـ"مفتاح القرن العشرين". لعب دوراً رئيسياً في الحركة الدادائية.

شغلته الفوتوغرافيا، انتقد ممارساتها التقليدية، ليطوّر ممارسات أعمق، على الصعد الوثائقية والرومانسية، لا تنفصل عن طرق العيش أو التفكير.

الفوتوغرافيا، بنظره، "سيرورة ذهنية. إنها أولاً مسألة تقنية في ترتيب مشاهد نبضاتنا البصرية، التي يخلطها بعض المصورين بالمضمون الأدبي، فتفرض عليها سرد قصة ما، وأن تكون رسماً لذكريات ومشاعر. عندئذٍ، تصبح الناحية البصرية من الصورة ثانوية، تخضع للسرد كي تنتج معناها. لتكون مصوراً، يعني أن تعي المظاهر المرئية، وتستمد منها ثقافة الإدراك البصري، الذاتي والمشترك. لأن الفرد لا يرى شيئاً آخر سوى صورٍ مدركة نظمها المستوى الحضاري لعصره. لكل زمن إشكالياته البصرية، وإدراكه المختلف للمرئي. طريقة النظر ليست ثابتة بل متحولة، تتغير وتتطور وفق إحتياجات اللحظة التاريخية".

مارس هاوسمان التصوير لعشرات السنين. تُقسم أعماله المصورة إلى مرحلتين: المرحلة الألمانية في العشرينيات، ومرحلة جزيرة "إيبيزا" وصموده في المنفى. امتدت مرحلته الذهبية من 1927 حتى 1936، لكنه اضطر إلى مغادرة إيبيزا في 1933 والإختباء في فرنسا (ليموج) حيث بقي حتى رحيله في 1971.

لم يسع ليكون مصوراً محترفاً، لكنه إهتم بهذا الفن لإغناء ثقافته الفنية مثل أكثر فناني جيله. في نهاية السبعينيات، اكتشف بعض الباحثين صوره المنسية، لكن المفاجأة الكبرى كانت إعادة قراءة كتاباته في فن التصوير، من بينها نص بعنوان "لست مصوراً". فوجئ النقاد بعمق ثقافته وجديته في ممارسة التصوير.

في نص من العام 1921 شبّه الفوتوغرافيا "كمظهر من مظاهر الإعاقة الروحانية التي تصيب الكائن البشري، الذي يعوّض عن إعاقته تلك بإخضاعه العالم لمعايير آلية ناتجة عن عدسة التصوير".

لكن المسألة التي شغلت مؤرخي الفن الحديث كانت طرحهم السؤال التالي: هل اعتبر هاوسمان نفسه مصوراً فوتوغرافياً؟ وكيف لهذا الناقد أن يصبح مصوراً بعد سنوات قليلة على نشر نصه "لست مصوراً"؟ 

تبقى هذه الأسئلة نقاطاً حساسة في نشاط هاوسمان الفنان- الفيلسوف والمصوّر. كان التصوير ملاذ الفنانين المستقلين الرافضين لإملاءات التقاليد الفنية لأزمنتهم. 

إهتم بالفوتوغرافيا التي فضحها في كتاباته منذ العشرينيات، "لأنها الوسيلة الوحيدة للتحرر من سيطرة القواعد"، ولتجاوز وتحدي الآليات النفسانية للإمتلاك الجمالي، ولإكتساب تقنية لا تنتج موضوعيتها سوى تزييفاً للتجربة الإدراكية والروحية. في الواقع، كانت الفوتوغرافيا بالنسبة إليه، مثل لغة، تشبيه فسّر ممارسة أخرى خاضها وأبدع فيها، هي الكتابة الشعرية التجريبية.

إرتاب من ثقافة المدن الكبرى رغم أنه عاش فترة في برلين مشاركاً في أنشطة الدادائيين فيها. تجنّب تعظيم "الحاضرة الحداثية"، الصناعية، على صورة المثال الأميركي. كان الوحيد من دادائيي برلين الذي اختار أسلوب التصوير المباشر والنقي "التوثيق، الوصف، التأمل"، وذلك بعد تحوله عن الحياة المدينية، من دون مديح حياة الأرياف، كحياة أصلية، كما نادى بها الفن الألماني في تلك الفترة. شاغله الوحيد كانت الواقعية الروحية.   

اكتسب أسلوبه الوصفي شكلاً شهوانياً في تجاربه مع الجسد، وحتى مع الطبيعة من خلال الإستعارات في تحولات المشهد. عندما صوّر الطبيعة فكّر بالفضاء المسكون، أو التجربة العاطفية للمكان. نجد في وصفه الشاطئ- إلتقاء الأرض بالبحر، البيوت- الملاجئ، إضافة إلى شحنة رمزية تحيل إلى معنى الفوتوغرافيا – الكتابة بالضوء: النبات، التراب، الأرض الرطبة، بيوت من صدف كمثال على البناء/الجسد، المكان النائي، بإختصار، الحياة. "فيض من عناصر متناقضة تصنع المكان- الزمن الأسطوريين، بمعنى دور الأسطورة في ربط التناقضات".

في منفاه، هرباً من النازية، استحضر هاوسمان "الجزيرة المنسية"، ليصبح بدوره منسياً من تاريخ الفن المعاصر، هو وعمله الفوتوغرافي المحصور بين 1927 و1936، والذي يشكل أيضاً "جزيرة مغمورة من تاريخ الفنانين الطليعيين بين الحربين العالميتين". كما كتب جان – فرنسوا شفرييه، مختتماً بسؤال: "هل الكائن البشري جزيرة؟"