"على قد الشوق": أزمنة الأمكنة المستحيلة

حسن الساحلي
الأحد   2018/06/03
لا تدع أحداً يخدعك. نحن جميعاً في خطر".
رغم أن "الحوار السينمائي" بين المخرجين اللبنانيين، غسان سلهب ومحمد سويد في فيلم "على قد الشوق" Le Voyage Immobile يأخذ طابعاً شخصياً، إلا أن المخرجين يختاران عدم الظهور في الفيلم، لتتكلم الصور والأصوات عنهما.


يتناغم هذا الخيار مع مسار الفيلم المشتت زمانياً ومكانياً، فيبدو عالمه مثل عوالم الأحلام التي لا تجري فيها قوانين الطبيعة، حيث يمكن أن تحصل في أي زمن، أو في كل الأزمنة ("في يوم، في شهر، في سنة" يقول الفيلم في أحد مشاهده الأولى)، وأمكنتها دائماً غير منطقية مثل "أمكنة الفيلم المستحيلة" التي تعيش في تلك المرحلة الفاصلة بين الوجود واللاوجود، كبناية قيد الإنشاء أو قيد التدمير، التي يصورها الفيلم في بعض مشاهد. ويجعل هذا من لسان المتكلم في الفيلم غائباً وحاضراً في آن، يتكلم معنا من عالمنا أو من "العالم الآخر" بدون فرق.

في السرد السينمائي الذي يتبعه الفيلم، لا ينفصل هذا التشتت المكاني والزماني عن واقع المخرجين اللذين يعيش كل واحد منهما في بلد، فمحمد سويد يعيش في دبي بفارق ساعتين عن سلهب الذي يقطن في بيروت، إلا أنه، من خلال التلفزيون ومحطاته اللبنانية الموجودة دائماً في خلفية المشاهد المصورة في منزله، يتحايل على هذا الفارق الزمني مع لبنان، وينطبق هذا أيضاً على سلهب، الذي كرس جزءاً من مشاهده للمطار (لا يمكننا دائماً تحديد الفارق بين الأمكنة التي صور فيها سلهب أو تلك التي صورها سويد) الذي أيضاً لا تنطبق عليه قوانين الزمان والمكان، ويعتبر ربما، الثابت الوحيد في أكثرية أفلام غسان سلهب الذي رغم عيشه اليوم في بيروت، تسكنه المدينة بطريقة مشتتة مكانياً ومختلفة كلياً عن سويد، المفتون بـ"الأصالة الشعبية" وأمكنتها.


يقول غسان سلهب إنه وسويد "لم يكتبا سيناريو للفيلم أو مخططاً لمشاهده"، وهو فعلاً يعتمد على حوار بينهما، حيث يختار كل واحد مشاهده وأصواته وطرق تعبيره خلال صناعة العمل، وهذه عملية إرتجالية بالدرجة الأولى، تعطي مساحة كبيرة للحظ و"تؤمن بقدرة الكاميرا على التقاط ما لا يراه المخرج" وفق سلهب. هكذا يصبح الفيلم مجموعة مشاهد شاعرية، تترافق مع جمل مكتوبة في الأسفل، عناوين بعض الأغاني العربية القديمة التي اختارها محمد سويد، بالإضافة لأصوات وإيقاعات موسيقية، بدون شخصيات ووجوه وحوارات مترابطة. وهذا يجعل الفيلم أقرب إلى Essay Film أو ببساطة "فيديو"، يأخذ طريقاً خاصاً لفهم العالم ويختلف عن الأفلام الوثائقية أو الروائية التي، تركز على الأبعاد النفسية والإجتماعية لشخصياتها بالدرجة الأولى.

في الوقت نفسه، هذه اللزوجة المكانية والزمانية، ترتبط باللاستقرار الذي يتجلى في الفيلم وايضا لدى سلهب وسويد. يظهر على شاشة التلفزيون مقطع من نشرة أخبار تتحدث عن أزمة الرئيس سعد الحريري في السعودية التي كادت أن تفجر الوضع اللبناني، ثم في مشهد ثانٍ، يجلس عامل على عنق حفارة بعد توقفها عن تدمير مبنى، وفي مشهد ثالث يخبرنا الفيلم عما قاله المخرج الإيطالي باولو بازوليني، قبل ثلاث ساعات من اغتياله في العام 1975: "لا تدع أحداً يخدعك. نحن جميعاً في خطر".



طبعاً اللا-استقرار هو سمة دائمة في أفلام غسان سلهب، التي توثق جانباً من المزاج اللبناني بعد انتهاء الحرب الأهلية، والعلاقة الملتبسة والمتوترة ويعيشها اللبنانيون مع مستقبلهم. يعتبر الدمار وإعادة الإعمار من سمات المرحلة، وقد تحولت منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري سنّة للإقتصاد اللبناني المعتمد على السوق العقاري بشكل أساسي، أي اللاستقرار، التدمير، والبناء المتواصل.

على أن اللا-استقرار يحضر في أفلام محمد سويد لكن من نوع آخر. فصاحب كتاب "يا فؤادي" الذي يوزع في فيلمه مع سلهب مجموعة عبارات مستلّة من أغان هي "غاب نهار آخر" لسهام شماس، "كنتوا حناين" لوديع الصافي، "نويت أداري آلامي" لأسمهان، و"كتير يا قلبي" لمحمد عبد الوهاب، يرتبط اللاستقرار عنده بمرحلة منقضية من التاريخ اللبناني والعربي، وفيه اللزوجة الزمنية القائمة على التوتر بين الحاضر والماضي، والريبة من العجز الذي يقع فيه الفرد إزاء موت الماضي، وهذا ما يجعل من لقائه بمستقبل غسان سلهب المتوتر والمأزوم، تجربة فريدة، تبدو مختلفة كثيراً عن أعماله السابقة...