عجلة الإصرار في روايات السوريات

روجيه عوطة
الأحد   2018/06/03
سمر يزبك جمعت الروايات ومسؤولية الثائرات تعني العمل كي لا يكرر الأسد ما ارتكبه بحقهن
اقتربت الروايات، التي سجلتها وجمعتها سمر يزبك في كتاب "تسع عشر امرأة-سوريات يروين" (المتوسط)، من استوائها على وتيرة سردية متشابهة، تتحدد بسمة بعينها، وهي طرز من طروز العجلة.

فقد جاءت هذه المرويات، وعلى لسان الثائرات، التي لا يكفي كل قاموس الجسارة لنعتهن، متعجلة، ليس لأن قصها تسبقه المشقة، أو لأن الفزع يتخلله، بل لأن مجرى آخر يلحقها، وهذا المجرى، من الممكن إطلاق اسم العيش، أو الدنيا، أو الحياة، عليه. فعند قراءة المرويات إياها، يبدو ان بطلاتها يحكين للإنطلاق منها، والإستمرار من بعدها، يتعجلن فيها، يتمكن من دفع عجلتها، إقبالاً على منتهاها. فالسرد، بمعنى من معانيه، هو رد المنسوج، المُحَاك، من أجل الإقدام على إثره، وكأن بدونه. السرد الفعلي هو الذي يصير سراً للذي يليه.

تنتج تلك العجلة نبرة تنتقل من رواية إلى أخرى، محولة إياها إلى وثيقة، ليس عن حدوث الثورة، وليس عن فظاعة نظام بشار الأسد عند سعيه في الإطاحة بها، فحسب، بل عن إصرار خائضاتها أيضاً. وهذا الإصرار بلا إعلان، ضمني، وحتى، عندما يظهر مباشراً، يبقى بلا تفخيم، لا يغدو خطبةً، بحيث أنه فضيلة، وبحيث أن كلامه هو البغية المتحققة، أو الحاضرة في صدد تحققها على وجه الدقة. لهذا، اللغة، التي تنشأ بهذه النبرة، وقبلها بوتيرة العجلة، هي لغة، تصفها يزبك بأنها "سهلة ممتنعة"، لكنها، فعلياً، ووراء وصفها، تربط بين تلقاء الشفاهي وهدأة المكتوب، تلقاء يعين الكلام على التنقل، على التسلسل، بدون أن ينكسر بفعل عنف الوقائع، وهدأة تساعده في تماسكه عند كشفه عما حدث، متغيراً إلى قول ينطق به اللسان كما يتلفظ به كل الجسد.

وهنا، لا مناص من التشديد على أن مفعول روايات الثائرات في القراء ليس مفعولاً يتعلق بتوفير المعلومات، بل يتعلق بالتأثير في الوجدان، إذ يحضهم على مهمةٍ مؤداها: عليكم أن تروا الحادث لنا، لا أن تتلقوه كخبر، ولا تشفقوا علينا، ولا أن تقلدوننا في عذابنا، بل ان تشعروا بأنكم، وفي أمكنتكم، على أوضاعنا، ولو تنوعت أشكال حدتها. المسؤولية أمام الثائرات تعني العمل من أجل ألا يكرر نظام الأبد البعثي ما ارتكبه بحقهن مع أغيارهن، العمل من أجل ألا  تتكرر ولادة هذا النظام، وكي لا يكون الموت مهرباً منه. 


فعلياً، مَن يريد الوصول إلى المعلومات عما حدث مع الثائرات، ومع أغيارهن، ومع كل السوريين، بمقدوره أن يستحصل عليها من مصادر عديدة، لا تؤلف رواياتهن مجرد واحد منها، وهذا، ولو جرى التعامل معها على أساس ذلك. فشهاداتهن ليست بياناً سردياً لإعلام القراء، من الممكن بدايةً قراءتها هكذا-وهذا الممكن هو ممكن بليد-ولكنها، وبفعل عجلتها، وفي نهاياتها، تبرز كأنها تنحو إلى تجنب التوقف على هذا الشكل عندها: نتكلم، نعم، نتكلم، إلا أن ما يهمنا هو كيف نتكلم بطريقة تذهب بنا إلى مجرى آخر، كيف لا نظل ناجيات فقط، وبالفعل نفسه، كيف نحافظ على حيوية النجاة، ما يهمنا هو أن نتكلم، لا لنكتفي بأننا شاهدات، بل لنكون أحياء أكثر فأكثر.

لا مبالغة في الإعتقاد أن الثائرات قد خضن التجربة السلبية المطلقة، أقسى تجربة ضد وجودهن، وها هن، وعندما ينتهين منها، يفزن بكل حياتهن. والآن، من المجدي إقتباس بعض عباراتهن الأخيرة كما هي: "أحاول بدء حياة جديدة"، "وصلت أخيراً... وأريد إكمال"، "ما زلت أفكر في حلب"، "الآن تشغلني فكرة تفكيك الشر"، "لكننا نجونا وعشنا"، "أعمل متطوعة في إحدى المنظمات الإنسانية في مخيم للاجئين"، "لن أتوقف عن النضال من أجل قضيتي"، "أنا فخورة بأنني بنت الرقة"، "شعرت بالقوة، وبأنني يجب أن أمشي إلى الامام، ولن يوقفني سوى الموت".
السلام على ثائرات سوريا!