"مصطبة لندن" للبلغاري كريستو.. هرَم للإرادة الرأسمالية

شادي لويس
الجمعة   2018/06/29
ينفذ كريستو أعماله الفنية بأمواله الخاصة
يستطيع زوار حديقة الهايد بارك، في وسط لندن، النظر من جهات عديدة إلى الجسم الضخم، الذي ظهر فجأة، طافيا على سطح بحيرة "سيربنتين"، منذ أيام. وربما يجد الزوار صعوبة في تفهم الغرض من الهرم غير المكتمل والملون بالأزرق والأحمر، أو تفسير مغزى اسم "مصطبة لندن"، الذي أطلقه عليه مصممها الفنان البلغاري الأصل، كريستو. وفيما ذهبت التقييمات الفنية في الصحف، إلى النظر إلى صفوف البراميل الـ 7506، التي بنى بها العمل الفني المؤقت، بوصفها دلالة على جشع المدينة، ونصب للتذكير بموتها، تحت براميل النفط التي تزن أكثر من 600 طن. وأشارت بعض المقالات إلى أن كلمة المصطبة العربية، تحيل للمصاطب الفرعونية، التي بنيت على طرازها الأهرامات المدرجة، وبالتالي فهي نصب للموت أو ربما للخلود. ويجوز أن يكون العمل الفني الذي يتجاوز ارتفاعه 20 مترا، وحجمه يساوي ثلاثة أضعاف حجم بناية لندنية متوسطة من ثلاثة طوابق، يهدف إلى إثارة شعور بالغرائبية أو التناقض. وذهب تقرير صحافي واحد على الأقل الى أن كريستو يعني بعمله، "المصطبة العراقية"، أي تلك الجلسة الحجرية التي تستقبل الضيوف في مقدمة البيت الريفي ومن خارجه. هكذا فالنصب الطافي يعني مصالحة عالمين، أو استحضار واحد منهما إلى الآخر، أو يسعى لمنح لندن دفء الترحاب والضيافة العربية، أو تهدئة لهاث سكانها واجلاسهم ليتسامروا في دعة أمسيات الصيف، بلا هدف سوى تمضية الوقت.

لكن براميل كريستو ربما لا تعني شيئا، فهو منذ بدء عمله الفني مع شريكته الراحلة جان-كلود، قبل أكثر من نصف قرن، استخدم البراميل الفارغة في الكثير أعماله، وفي بقاع مختلفة من العالم. كما أن "المصطبة" ليست بالضرورة لها أي علاقة بلندن تحديدا، فكريستو كان قد صمم مصطبة مشابهة، وإن كانت أكبر ست مرات، لنصبها في صحراء أبو ظبي. وكان معنيا بها أن تكون أكبر نصب في العالم، وإن لم يكتب لها أن تنفذ بعد.

ولا يدعي كريستو غير ذلك، فهو لا يحاول أن يلصق أي معنى بأعماله، فغرض الفن الوحيد طبقا لفلسفته الجمالية، هو المتعة. ولذا على الفنون أن تكون متاحة للجمهور، ومجانا، وفي الأماكن المفتوحة، وهذا ما يفعله بالضبط، فمرة نصب ستارة من القماش البرتقالي بطول 400 متر على جبال روكي، وفي مرة أخرى غلف جزيرة كاملة بالقماش، وفي عمل آخر مد جسراً من شرائح البلاستك تحت سطح البحر ليمكّن الجمهور من المشي على الماء للوصول لجزيرة إيطالية أخرى.

لكن الضخامة الغرائبية، ليست ما يميز أعمال كريستو وجان-كلود، بل طريقة تمويلها. فالثلاثة ملايين إسترليني، كلفة بناء مصطبة لندن، كان قد أنفقها كريستو من حسابه الخاص، ككل أعماله الأخرى. فهو أصر مع شريكته على رفض أي تمويل حكومي، لبناء أنصابهما العامة، ويوفران تكلفتها من مبيعات أعمالهم الفنية الخاصة. ويمكن أن ينظر لتلك الأعمال الضخمة بوصفها ترويجاً دعائياً للثنائي، وتسويقاً لمبيعاتهما الفنية، لا العكس. لكن ما صرح به كريستو أكثر من مرة، أن التمويل يعني تسييس الفن، فعمليات طرح التمويل والتقدم لها والفوز بها يعني سلسلة من العمليات السياسية، وخوض في شبكات للنفوذ والسلطة، وخضوع لها بشكل أو بآخر. ولا يرفض كريستو السياسة، بل يذهب إلى أن أعماله هو تحديدا، تمثل الاشتباك الحقيقي مع السلطة، أي هي "السياسة الحقيقية".



ففي حوار له عن "مصطبة لندن"، مع مجلة "ديزاين" البريطانية، يقول كريستو إن الحصول على التصريح الحكومي لنصبه المؤقت في حديقة "الهايد بارك"، كان بصعوبة الحصول على تصريح لبناء ناطحة سحاب أو إنشاء طريق سريع. إلا أن ما يخوضه كريستو، ليس مشقة البيروقراطية والمعاملات الورقية فقط، بل حربا سياسية مفتوحة أحيانا كثيرة. ففي عام 1995، وبعد 20 عاما من التخطيط، نجح مع شريكته، في الحصول على تصريح لواحد من أشهر أعماله، سمح له بلف مبني "الرايخشتاغ" وتغطيته بالكامل بالأقمشة. وكان ذلك انتصارا للفن على المستشارية الألمانية والوزارة اللتين عارضتا كلاهما المشروع.

يعيدنا هذا كله إلى السؤال نفسه، ما الذي تعنيه المصطبة الطافية ولماذا يظن كريستو أن تغطية البرلمان الألماني سببا لمتعة الجمهور؟ وما الدافع وراء خوض مشقة تلك المعارك السياسية؟ يجيب هو بكل بساطة بأن أعماله لا تحيل إلى شيء خارجها، "هي ما هي عليه"، والأهم، أن هذه الأعمال نفذت، "فقط لأنني وشريكتي أردنا أن تكون موجودة". ولأنه فنان متحرر من قيود والتزامات التمويل، فهو يقول: "أنها نقودنا، أنها حريتنا".

يقدم كريستو الذي فرّ من وراء الستار الحديدي في العام 1956 إلى الغرب، نموذجا لفن الرأسمالية، وقيمها مجسدة بكل خشونة. فالفرد، والعبقرية الفردية، ومعها رأس المال قادرة على فعل كل شيء، المشي على الماء، وتغطية الجزر، وبناء ستائر على الجبال، ونصب أهرامات طافية في الصحراء أو على سطح بحيرات حديقة لندنية.. يحتفي كريستو بالمنجز الإنساني في تغلبه على الطبيعة، وبانتصار الفن على السياسي والفنان على مؤسسة التمويل، وبالعمل الفني بوصفه منجزاً كل مبرره وتحققه يكمن في إرادة المبدع لا أكثر.

لكن أعمال الثنائي تطرح منطقا خاصا للحرية، الحرية التي يوفرها رأس المال، وتحتفي بقدرة الثروة الفردية على تشكيل المساحة العامة على هواها وحسب إرادتها، لا لشيء سوى أنها تستطيع. هكذا فمصطبة لندن، غالبا صرحٌ شخصيٌ لكريستو نفسه، يحتفى فيه برأسماله المليوني، وتدويره الدعائي، لصالح المزيد من المبيعات، ويبني هرماً حديثاً، بكل معنى الكلمة.