صفوان حيدر والكوستا

المدن - ثقافة
الجمعة   2018/06/22
رغم أنني كنت أرتاده بشكل شبه يومي طيلة السنوات الممتدة بين العامين 2010 و2016.. ومع أن لي فيه الكثير من الذكريات الجميلة.. فإنني لا أشعر بالحزن الأسيف على مقهى الكوستا (الحمرا) الذي ينضم اليوم الى لائحة طويلة من المقاهي التي طالما أدمن المثقفون والشعراء على رثائها بوصفها علامات متعاقبة على ذاكرة تشارف عناوينها على النضوب.
ظلال لا تنتهي: التجارب الجديدة. الذين صادفناهم هناك للمرة الأولى وأصبحوا أصدقاء لنا أو أعدقاء. الأدعياء والمدعون.. الركن المفضل للكتابة. المذاق الممتاز للقهوة. الغمز واللمز والنميمة التي لا تنتهي. الـ"حلو حلو" ثم السخرية بمجرد قيام الشاعر أو الكاتب عن الطاولة. الفضائح الموجزة. الخيانات العابرة. الكهول الذين يعرفون كل شيء في الاقتصاد والتاريخ واللغة والفلسفة. وغيرها الكثير الكثير.

لكن، على ما يبدو، فإن مقهى الكوستا سيكون متلازماً عندي مع ذكرى شخص واحد: صفوان حيدر، الذي لطالما وقف بلا سابق انذار على باب المقهى ليخطب، وسط ذهول الحاضرين، ضد الامبريالية وضد اسرائيل وعملائها في الداخل. صفوان الذي ما إن كان يفرغ من الخطبة وتوزيع المناشير الثورية، حتى يتجه الى طاولتي ليرفع يدي بخشوع هامساً: باركنا يا سيدنا المسيح. فأجيبه باسماً كما في كل مرة: لقد صلبت لأجلكم يا صفوان. ماذا تريدون بعد؟!.. فيجيب: كلا لم تصلب. لقد صلبوا المسيح الأرضي. لا أنت. يا سيدنا المسيح القادم من اندروميدا!

كل ذكرياتي في الكوستا قد تتحول يوماً ما، الى مجرد خلفية غائمة للسيرة "الفصامية- الذهانية" لصفوان حيدر التي تبز بأشواط سيرة البروفسور في رواية غازي القصيبي "العصفورية". 

صفوان الذي، ومنذ خمسينات القرن العشرين، سيرصد الاستعمار الفرنسي نورانيته بأجهزة فائقة التطور. وفي الرابعة من عمره ستبدأ المطاردة التي لن تتوقف منذ ذلك الوقت. 
في اوروبا السبعينات، ستزرع المخابرات العالمية أجهزة للتنصت في غرف الفنادق المختلفة التي كان على صفوان تبديلها باستمرار. أجهزة للتنصت حتى في مرحاض الحمام. ذلك ان المخابرات الفرنسية ومن بعدها الاميركية، اصبحت مهووسة بالحصول على اي أداة استعملها أو أي اثر من جسده (لعاب، عرق، بول، براز) ذلك أنه بات معروفاً لأكثر من جهاز أمني عالمي أن جسد صفوان (الذي يضارع هنا جسد السيد سكربر: واحد من نماذج الفصاميّ عند دولوز في الأنتي اوديب) يحتوي على مواد غير موجودة في عالمنا هذا.

المطاردة الاشرس ستكون العام 1976 حين سيتمكن صفوان من الافلات بأعجوبة حيث سيصعد على سطح قطار الامبريالية ليقفز من دون تردد الى النهر في اللحظة الأخيرة.. بيد أن الأمور لن تتوقف هنا، وستستمر المطاردة التي كان آخر فصولها في شارع الحمراء حيث سينجح صفوان في الافلات من محاولة اختطاف كان يشرف عليها أوباما شخصيا.

الكثير من المواقف الطريفة التي لن أنجح في استعادتها جميعها. لكني مهما نسيت، فلن أنسى ذلك الصباح حين نهض صفوان عن طاولتي (التي جلس اليها من دون استئذان كعادته) واتجه الى الطاولة المجاورة التي كان يجلس عليها أحد أقرباء المرحوم جورج حاوي (أظنه أخاه) ليعود بعد قليل صوبي وينخرط في نوبة من البكاء الشديد والصراخ العالي: أنا قتلت جورج حاوي... أنا قتلت جورج حاوي!!

نحن الذين شفينا من التورط العصابي بالأمكنة وخرجنا من الحداد البهلواني على أنفسنا القديمة. لن يشكل مقهى الكوستا خسارة لنا. أما أنت يا صفوان حيدر (الاسم الآخر للخسارة) فتحية لك أينما كنت الآن.

(*) مدونة كتبها الشاعر ربيع شلهوب في صفحته الفايسبوكية.