مغامرات الأسوُد..عن عشق المستديرة واستبدادها

أيوب المزين
الثلاثاء   2018/06/12
يُلخّص اللعب المتعة السيادية للحكم، جاعلا الخطابات وحدة حيوانية
"ما وراء خط التماس، ليس هنالك شيء" جاك دريدا

كرة القدم، قبل أن تكون رياضة حديثة ابتلعتها ماكينات التجارة وسياسات الهوية، فهي لعبة من بين ألعاب كثيرة ابتدعتها الإنسانية منذ ليلها البعيد للتسلية والمتعة. الركض والرمي والغطس ثم القفز والتزحلق والركل. ألعابٌ تحاول تدريب الأجسام وتقويتها لمجاراة الآلهة الرّاحلة، وتبتغي إيجاز العالم واختزاله في قوانين داخلية يعتقنها اللاعبون والمشجعون والمقامرون، وينضبطون لها مثلما ينضبط المناضلون داخل حزب والمريدون في طائفة. طبعاً، تبلبل مسألة اللعب فكرة الخلق وصرامة الكينونة، لأنها تحاكيها وتنتزع منها راهنية شريعتها وسطوتَها الأبدية. إنها تُوقف الزمن وتختطف المؤمنين. وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين. تسعون دقيقة، دون احتساب الوقت الإضافي، كافية لأن يُضيع التاجر رأسماله وينسى المتعبّد صلاته ويخسر الصديق صديقه. ساعة ونصف الساعة تكفي فعلا لخوض تجربة وجدانية متميزة أو لإخراج الحشود عن طوعها: لإشعال حرب، لإنهاك قلب، لإرساء عقيدة، للفتك بجسد، إلخ. فالخسارة فادحة ومذلة وحزينة، ولا أحد يرغب فيها، رغم ادعاء القبول ومسكنة الغابة.

في برّيّة شمال إفريقيا، هناك أسود الأطلس وثعالب تندوف ونسور قرطاج. كواسر وجوارح منها من انقرض ومنها من دُجِّن. وأكثرَ من بقية الشعوب العربية في المشرق، صار لأهالي المغرب الكبير، مع الاستعمار وبعده، علاقة وطيدة بهذه اللعبة. فقد أصبحت مسرحا تجرِّب فيه أسباب الهزيمة والخضوع، وتمكر من خلاله للتلذذ بالربح المؤجل. إبّان النصف الأول من القرن العشرين، شاعت الكرة، كما الملاكمة، في أوساط الفقراء من السكان الأصليين والمستوطنين، من فرنسيين وإسبان وإيطاليين. الفقراء يتبارزون والأغنياء يتفرجون ويقامرون. كان من أشهر هؤلاء العربي بن مبارك، أول محترف مغربي في مارسيليا، ثم عرفنا لاحقا أندريدا وكامو كانا لاعبين يزاولان كحارسيْ مرمى في الجزائر. إلى أين يجري كل هؤلاء الحفاة وماذا يحرسون؟ ماذا يعني أن يجتمع الملايين، في الملاعب وخلف الشاشات، في وقت واحد، لمتابعة معتوهين ينهشون بعضهم من أجل خرقة جلدية منفوخة؟ وما الذي ستصنعه أسود قادمة من الجبال المغربية في فيافي سيبيريا القاحلة؟


تكتيكات العاهل

يُلخّص اللعب المتعة السيادية للحكم، جاعلاً الأبدان والخطابات وحدة حيوانية للقول الجمعي واستكانة جمعية للحظ والواجب. كذلك فعل عاهل المغرب السابق، الرياضيّ الأوّل كما أسموه. فإلى جانب هوسه بضبط القلاقل السياسية والنقابية والشعبية، كان الحسن الثاني مولعاً بالرياضة والموسيقى والتشريح. عندما كان وليّا للعهد، أيام الحماية الفرنسية، عُرف بعشقه للكرتين، كرة السلة وكرة القدم. كذلك أحبّ الغولف، لكنه لم يكن موفقا فيه. في تلك الفترة، شجّع الحسن بن محمد الوداد البيضاوي، الفريق المغربي الخالص بين فرق كثيرة مفرنسة، واعتبر المستديرة تقنية من تقنيات التقريب بين الجماهير الثائرة والعرش المسلوب؛ فاتخذ منها مجالاً لتصفية حساباته وترسيخ جماهيريته لمنافسة زعماء الحركة الوطنية آنذاك، حتى أنه كان يتنقل خفية مع فريقه المفضل، وكان يدعو أصحابه للعب داخل أسوار القصر. بعد الاستقلال، أسس الأمير الشاب فريقه الخاص، الجيش الملكي، وسارع بعد وصوله إلى العرش نحو تنظيم اللعبة وطنيا عبر جعلها لصيقة بالأسرة المالكة (الجامعة الملكية لكرة القدم عوض الجامعة الوطنية) وبادر لتقديم طلب انتساب المغرب إلى الفيفا وإلى الكونفدرالية الإفريقية لكرة القدم.

كان همّه تشييد شعور قومي تجعل به هذه الرياضة تصور المغاربة للدولة يطابق الملكية نفسها، وتنتقل فيه التعددية والتنافسية من المجال السياسي إلى المجال الرياضي، حتى أصبح "بطل كروي يمثل بلده عالميا أهم من بيروقراطي يجلس خلف مكتبه"، حسب تعبير أحد المقربين من الملك. التاسع من ديسمبر 1979، حدثت الهزيمة أمام الجار الجزائري في الدار البيضاء. خمسة أهداف لهدف واحد. نتيجة جعلت الملك يستشيط غضباً، فقد كان يحس نفسه معنياً باللعب، ولذلك تدخل مباشرة في إعادة هيكلة المنتخب والقطاع بأكمله، فكان يختار المدربين بل ويتدخل في قائمة اللاعبين ويواكب تحضيراتهم. هكذا ظهر جيل السبعينات ثم الثمانينات، في عز الرصاص والدم، جيل بادو الزاكي والظلمي ولمريس وعزيز بودربالة الذي حكى لمجلة So Foot بأن الملك كان يُسطّر خطط الفريق الوطني، بل إنه، ساعات قليلة قبل نهائي الألعاب المتوسطية عام1983 ضد تركيا، استدعى اللاعبين إلى القصر واقترح عليهم لعب كرات قصيرة داخل مثلثات لإنهاك الخصم وبناء الهجوم (Tiki-Taka). لم يكتف العاهل بتلقين تقنياته، بل كان يمنح اللاعبين امتيازات وهدايا كما حدث عام 1994، لما أعطاهم حُلية نقشت عليها آية الكرسي، لكنهم رجعوا من أميركا بثلاث خسارات.


معركة الملوك الثلاثة

اجتاز الأسود فيلة ساحل العاجل في التصفيات، بعد غياب دام عشرين سنة، وأوقعت قرعة كأس العالم 2018، المقامة في روسيا الاتحادية، أسود الأطلس في مجموعة الموت، كما سماها المتخصصون. مجموعة تضم كلاّ من إسبانيا (بطلة العالم) والبرتغال (بطلة أوروبا)، زيادة على إيران التي قطعت معها المملكة الشريفة مؤخرا علاقاتها الديبلوماسية بسبب اتهامات مغربية لحزب الله اللبناني بالتآمر على وحدتها الترابية بإيعاز من الفرس. إيران، التي تدعم ملف المغرب لتنظيم كأس العالم 2026، نكاية بأميركا، لن تكون الخصم الأصعب إذن. فالجارتان الإيبيريتان شرستان ومعروفتان بالتكالب ضد المغاربة. لنعد قليلا إلى الوراء. في الرابع من أغسطس 1578، التقى جيش المملكة البرتغالية، مدعوما بجنود مملكة قشتالة ومحاربين أرسلتهم البابوية، بالإضافة إلى مرتزقة ألمان، بجيش الدولة السعدية. تنازع محمد المتوكل وأبو مروان عبد الملك على الحكم، فانحاز أهل المغرب وعلماؤه لعبد الملك بعدما استقوى المتوكل بالأوروبيين ضد العثمانيين، فكتب إلى الناس يقول: "ما استنصرت النصارى حتى عدمت النصرة من المسلمين". ولما استجاب ملك البرتغال سبستيان الأول لنجدته، كتب عبد الملك إليه: "إن سطوتك قد ظهرت في خروجك من أرضك، وجوازك العدوة، فإن ثبتّ إلى أن نقدم عليك، فأنت نصراني حقيقي شجاع، وإلا فأنت كلب بن كلب". زحف المقاتلون من لشبونة وروما، ومن فاس ومراكش، نحو السواحل الأطلسية، فكان القتال عند وادي المخازن، قرب القصر الكبير. مات عبد الملك والمتوكل وسبستيان، واستقوت إسبانيا مستغلة انهيار المملكة البرتغالية وتفكك دولة السعديين.

لقد غامر سبستيان بعرشه مؤمنا باللعب الخالد، فخلّده فرناندو بيسوا في قصيدة شهيرة كملك خفي جسّد جنونا عبقريا يعكس عظمة البرتغال، تماما مثلما يخلد الإعلام الرأسمالي اليوم اللاعب رقم 7 كمفخرة برتغالية معاصرة. لن تكون مقابلات المجموعة الثانية، مجموعة الموت، مجرد مقابلات للتسلية في أذهان القاعدين داخل قصور الرباط ومدريد ولشبونة (أتذكر الآن أن البرتغال جمهورية ضعيفة)، وإنّما ذكرى مأسوية لكل ما لُعب وما لم يُلعب حينما أريقت الدماء في المحيط. تكهنات كروية عاطفية: -المغرب(2): إيران(0)؛ البرتغال(1): المغرب(3)؛ إسبانيا(1):المغرب(1). مارستُ المستديرة لعشرية كاملة رفقة الفريق المحلي لمدينتي، وإليها يعود الفضل في كل ما عرفته عن القيم وعن واجبات الرجال: الانضباط والصبر، والحيلة إذا اقتضى الأمر. لكن رقعة الملعب بالنسبة لنا، كأطفال ومراهقين، كانت مجرّد مساحة رملية وعشبية نطويها مقبلين على متعة دون علة أو غاية. كان ركضنا وعرقنا وضحكنا ودموعنا تعبيراً خالصا عن السيادة الطفولية المستقلة عن أي سلطة مارقة، وعن أي مكر سياسي. يمكرون ويمكر الله. كنا أسياد أنفسنا، كما لو كنا نردد قول هرقليطس: "زمنُ العالَم طفل يلعب الضامة. إنّ السيادة مِلكُه الخاص".