العرب وحجب نوبل.. مأزق جائزة أم أزمة كتابة؟

شريف الشافعي
الأربعاء   2018/05/09
العائلة الملكية السويدية خلال إحدى حفلات توزيع جوائز نوبل (غيتي)
هو مشهد حقيقي، بدأ بواقعة تحرش يتبرأ منها صاحبها، وشبهات اتهامات محتملة في أروقة المنظمة التي تقرر منح جائزة نوبل للأدب، وانتهى المشهد حادًّا كما بدأ، بحجب الجائزة بقرار من الأكاديمية السويدية، على أن يتم منح جائزتين للأدب في 2019، عن العامين الحالي والمقبل. وقد ثمَّن البعض قرار الأكاديمية، ورأى آخرون أن الجائزة كان يجب أن تستمر بلا توقف، بآليات أخرى.

هذا ما حدث، وما يدور الحديث فيه حول العالم، وتنعقد المناقشات والتحليلات، في غير عالمنا العربي، الذي أفرز كالعادة مشاهده الفانتازية الموازية، وتأويلاته المنحرفة، فتجلى الهامش كما لم يتجلّ من قبل، إلى درجة أنه اغتال المتن، وغيّب الحدث الأصلي لصالح الأساطير وناسجيها من المتأففين من الفعل الفضائحي، المتبرئين من أخلاقيات الجائزة.

حصيلة التدليس الذي جرى، باختصار، تقود إلى مجموعة من المسلّمات الملفقة التي فرضت سيطرتها بالصوت العالي في المشهد الثقافي العربي، وأبواق الميديا، منها أن زلزالًا قد عصف بمصداقية الأكاديمية السويدية لدى الرأي العام الأدبي في العالم، ومن ثم فمن السهولة تمرير اتهامات إضافية إلى الجائزة من قبيل الفساد والانحياز السياسي والعرقي، وغيرها، بلا شواهد وأدلة جديدة مباشرة، غير ما كان يتردد منذ عشرات السنوات بشأن الجائزة المرموقة، الأبرز والأكثر شهرة.

هذا الزلزال العاصف، وفق الرؤية العربية الطافية على السطح، بإمكانه أن يهز كل شيء؛ باستثناء ثقة العرب في أحقيتهم في نوبل للأدب، تلك الثقة التي عليها أن تزداد رسوخًا بعد انكشاف انحرافات المنظمة، وهو ما يعني بالضرورة "سوء نية" اللجنة الممعنة دائمًا في ظلم العرب.

هذه الاستنباطات الخرافية، العجائبية، التي يرددها بعض الكتاب العرب على استحياء أو بقدر من المواربة، يعلنها آخرون بصراحة فضائحية، وبثقة تعادل ثقة حصول العرب على نوبل في الأعوام القليلة المقبلة، بعد تطهير المنظمة السويدية من دنسها، ولا بأس من بيانات عصماء تخاطب المنظمة، وتحاول التأثير فيها: "ظَلَمْتم، وانكشفتم، ثم أصلحتم، فأعطونا حقنا".

أما غاية الشطط، والاستخفاف بالعقول، فهي أن تتحمل كيانات ومؤسسات عربية معتمدة مسؤولية منزلقات على هذا النحو العاري من أبجديات المنطق، إضافة إلى توهمها الغريب أيضًا أنها كمؤسسات قد تكون ذات صوت مسموع من جانب المنظمة السويدية. وإذا افترض أحد جدلًا إمكانية وصول الصوت، فهل يستجيب المشتوم لمن يشتمه؟!



من هذه المنبريات التي تعكس الرأي السائد في المشهد العربي، بيان "الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب" على سبيل المثال، المنسوب بخصوصية أكثر إلى الشاعر الإماراتي حبيب الصايغ، الأمين العام للاتحاد، وورد فيه الترحيب بقرار إرجاء إعلان الفائز بجائزة نوبل للأدب لهذا العام. أما سبب الترحيب الذي أورده الاتحاد (متجاهلًا تمامًا ملابسات الإرجاء) فهو بالحرف: "استغلال الأكاديمية السويدية الفرصة لإعادة ترتيب أولويات منح الجائزة، وتخليصها من انحيازاتها السياسية، التي أدت إلى منع حصول الكتاب والشعراء العرب عليها رغم المستوى الراقي لبعض الكتابات العربية".

ويمضي اتحاد الكتاب العرب في بيانه لينتقد حصول "أدباء مجهولين" على نوبل في السنوات الأخيرة، ممن "ليس لديهم إنتاج أدبيٌّ، من حيث الكم والكيف، يؤهلهم للحصول على أكبر جائزة في العالم، وهو ما كان مثار تندر واستغراب واسعين في أوساط الأدباء والمثقفين".

ويصف الاتحاد عدم حصول شاعر عربي واحد على جائزة نوبل، بأنه "إجحاف بحق هذا الفن العريق، والشعراء العرب المتميزين الذين أبدعوا ولا يزالون يبدعون، بالرغم من أن للشعر العربي تاريخه الطويل، وجمالياته التي تطورت على مر القرون، وشعراءه الكبار الذين أضافوا الكثير للشعر العالمي". كما أكمل الاتحاد مهمته العنترية بإعلانه الاستعداد لترشيح أدباء وشعراء عرب متميزين للجائزة سنويًّا، إلى جانب الجهات والمنظمات التي لها حق الترشيح. وكان الاتحاد في نوفمبر/تشرين الثاني 2017 قد طرح تنظيم "منتدى الأدب العربي والعالمي"، بهدف دعم حصول الكتاب العرب على جائزة نوبل.

ووفق الاتحاد، فإن مثل هذا المنتدى الذي يعمل على مدار العام مزودًا بموقع إلكتروني ويُعقد كل عامين في دولة مختلفة من الدول العربية، من الممكن أن يسفر عن حصول أديب عربي على نوبل، إذ يبدو الأدب العربي جديرًا بالوصول إلى العالمية، ولكنّ القائمين عليه لا يبذلون الجهد الذي يستحقه هذا الأدب.

هكذا تتعامل الكيانات المؤسسية العربية مع الأمور، وكأنها في حالة فصام مَرَضية عن الواقع، وهكذا جاء تعاملها مع حجب نوبل للأدب، بمعزل عن حقيقة ما حدث في أروقة الأكاديمية السويدية، وكأن الحجب قد تم بسبب فضح مؤامرة حيكت ضد أديب عربي مثلًا أو رشوة أو تلاعب في النتائج.

لقد أوضحت الأكاديمية السويدية بدقة حيثيات الحجب ومقدماته بشفافية، ويعود الأمر إلى ما تردد عن سوء سلوك المصور الفرنسي جان كلود أرنو، المتزوج من عضوة في لجنة المنظمة هي الشاعرة والكاتبة كاترينا فروستينسون، وقد استقالت كاترينا إثر ذلك، كما استقالت رئيسة الأكاديمية، وأربعة أعضاء آخرين. وارتأى أعضاء في الأكاديمية، وشجعهم أصحاب أقلام من خارجها، أن الجائزة يجب أن تستمر لحماية التقاليد، لكن آخرين قالوا إن المؤسسة ليست مؤهلة في وضعها الحالي لمنح الجائزة، وهو الرأي الذي أخذت الأكاديمية به.

وقد وُصِم الفرنسي جان كلود أرنو بسوء السلوك، بعدما تقدمت 18 سيدة بادعاءات تحرش جنسي ضده، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، في إطار حملة "مي تو"، ولا يزال أرنو ينفي هذه الادعاءات كلها.

من جهة أخرى، ترددت شبهات اتهامات محتملة لعدد من أعضاء اللجنة، بتعارض المصالح وتسريب أسماء الفائزين، الأمر الذي أثار انتقادات أعضاء الأكاديمية بعضهم بعضًا علانية، فزادت الضغوط على الأكاديمية، وعلق ملك السويد بأن قواعد المنظمة يجب أن تتغير بشكل يسمح للأعضاء بالانسحاب من عضوية الأكاديمية رسميًّا.

لقد أقرت الأكاديمية فعليًّا بأن جائزة نوبل للأدب قد تأثرت بشكل كبير، وتعهدت بتقديم خطة لاستعادة ثقة الرأي العام في المنظمة. والحقيقة أن ما أقدمت عليه الأكاديمية من تحريات وتحقيقات وقرارات يبدو دعمًا للجائزة أكثر منه هدمًا لها، إذ أغلقت بابًا كان يمكن التسلل منه للطعن في نزاهة الجائزة ومصداقيتها. أما بالنسبة للسياسة، فإن المنظمة تكرر دائمًا أنه لا مجال للسياسة في التأثير على التقييم الأدبي المجرد.



ماذا عن الظل العربي؟ لو أن الأمر يستقيم، وهناك بالفعل من لا يريد الانخراط في متن المشهد الأصلي وتداعيات حجب نوبل للأدب، مفضّلًا الالتفات إلى هامش الشأن الثقافي العربي، فالأدعى هو التساؤل: هل هناك ما يعني العالم العربي من هذا الحجب؟ لم يحصل عربي على نوبل سوى نجيب محفوظ في العام 1988، فلماذا يهتم العرب هذا الاهتمام كله بمأزق الجائزة؟ أليس الأولى أن ينشغل العرب بـ"حجب الوعي" وتغييب العقل في مجتمعاتهم قبل حجب نوبل، وبأزمة الكتابة التي تخصهم بدلًا من البحث عن أوراق توت جاهزة لمواراة مشكلات مستعصية من قبيل الترجمة إلى لغات أجنبية والترويج والتسويق الخارجي للمنتج العربي وتبعية المثقف العربي للغرب من جهة وللسلطة من ناحية أخرى وعزلته عن الجماهير، وغيرها؟

في لقاء جمعني بأديب نوبل نجيب محفوظ، صيف 1992، في مكتبه بمؤسسة "الأهرام"، حيث كنت أجري حوارًا معه، أجابني عن سؤال وجهته له بشأن "حلم كبير يتمنى تحقيقه في مصر والعالم العربي"، بأن أعظم ما يتمناه "مؤسسة عربية للترجمة"، ذات طابع قومي، تأخذ على عاتقها تقديم الأدب العربي للعالم وفق خطة احترافية مدروسة، واعتبر محفوظ مثل هذه المؤسسة (التي لم توجد بعد) بوابة لحجز مكان في المشهد العالمي، من حيث الحضور والجوائز.

ووفق لجنة نوبل، فإنها لم تعد تضم مستشرقًا يستطيع القراءة بالعربية مثلما كان يحدث في الماضي، ولذلك فإنها تعتمد في انتقاء الفائز على الترجمة، فلا مجال لفوز عربي بنوبل من غير ترجمات أمينة رفيعة المستوى، محل ثقة وتقدير على الصعيد الدولي.

وفي ما يخص الترجمة وحدها، إحدى أبرز مشكلات الأدب العربي، هناك الكثير من التفاصيل المحبطة. فحركة الترجمة تتم على نحو ارتجالي، وليس وفقاً لمناهج وأسس. وتشير الإحصاءات إلى أن العرب من أقل الأمم ترجمة على مستوى العالم، وتكاد تنعدم المؤسسات العربية التي تدعم الترجمة من العربية إلى لغات أجنبية، إلا في بعض الجوائز، مثل "بوكر" و"كتارا"، وفي مجال الرواية عادة. أما المؤسسات الغربية، فتنتقي ما يروق لها من أعمال عربية تدعم رؤيتها للشرق.

وبضعف حركة الترجمة، على هذا النحو، يصير الحديث عن ترويج الأدب العربي في الخارج، وتسويقه، بمثابة محاولة الإعلان عن سمك في البحر. وعلى كل حال، فإن العقبات الإجرائية ليست وحدها العائق دون بلوغ الأدب العربي العالمية من حيث الحضور وحصد الجوائز الكبرى.

في حديث سابق لأدونيس، الذي كان مرشحًا لنوبل في العام نفسه الذي شهد فوز محفوظ بالجائزة، وفق تأكيد من رئيس لجنة نوبل في وقت لاحق، أشار أدونيس إلى العقبات السياسية أيضًا، لكنه لم يقصد المنظمة السويدية بقدر ما كان يقصد الأنظمة السياسية العربية، المسؤولة عن تفريغ الثقافة من محتواها الإنساني.

هذا هو الحديث الملائم للعرب، إذا أرادوا الخوض في مسألة "الحجب". فهناك حجب للوعي، وتغييب للعقل، وإزاحة للحرية، وهناك حكومات وسياسات عربية أوصلت الوضعية الثقافية إلى الصفر الراهن، حيث بات الإبداع وظيفة خاملة أو مخملية، وفقد الكاتب دوره وتأثيره وفاعليته، وانتفى خارج النسيج الاجتماعي والوطني.

اتفق العرب على الاختلاف، والتشرذم، ولم ينجُ الوسط الثقافي من هذه الآفات بطبيعة الحال. حتى نجيب محفوظ، الذي تحققت فيه شروط نوبل الفنية دون غيره، لم يسلم من الصواريخ العربية العربية. فهذا يتهمه بأنه أديب الحارة، وذلك ينسب فوزه إلى رواية ملحدة، وثالث يرى أنه كوفئ بسبب دعمه كامب ديفيد. أما حيثيات منحه الجائزة، فقد رصدت ملامح تميزه، ومنها: أصالته وإخلاصه وتجديده في القالب الروائي وتنوعه ونفسه الطويل واقترابه من الناس في الكتب وفي السينما وتقديمه مشروعًا متكاملًا وحياة نابضة.

إن فوز عربي بنوبل للأدب، مرهون بتجاوز العوائق الفنية والإجرائية. فمَن الذي يستطيع ارتداء ثوب محفوظ من جديد، لإقناع اللجنة بأنه صاحب منهج مميز وموهبة عارمة وإضافة إلى تيار الأدب العالمي من خلال أعمال قريبة من مجتمعه ومن الواقع الإنساني العام، ومترجمة إلى لغات أوروبية متعددة؟

إذا كان هناك من أمل، فإنه قد يبقى منعقدًا على الرواية أكثر من سواها. فبالنسبة إلى الشعر، تضاف مشكلات أخرى، غير غياب المشروع الكبير والفكاك من النخبوية والقدرة على الوصول إلى العاديين، منها: خسارة الشعر عناصره التأثيرية الكبرى عند الترجمة، وارتباط القصيدة العربية بالماضي في كثير من توجهاتها وأخيلتها وصبغتها الغنائية مهما بدت حداثية القالب، ووقوع الشعراء الجدد في أسر التقليد للمنتج الغربي الوافد.

إن حجب نوبل للأدب 2018، قد يثير إشكالات ومآزق تخص الجائزة ولجنتها والأكاديمية السويدية، على أن ما يخص الأديب العربي في المقام الأول هو ذلك التعثر الذي يواجهه كلما حاول التقدم فوق أرض كثيرة الحجارة.