مهرجان "ريدزون": التسامح والجنسانية والدبابات

منى مرعي
الثلاثاء   2018/05/08
على مساحة تمتد بين الكرنتينا والطيونة، انطلقت منذ أيام فعاليات مهرجان "ريدزون" في بيروت. المنطقة الأولى، حيث استديو زقاق وموقف السيرك، شهدت في ما مضى مجزرة ومعارك وتهجير، والمنطقة الثانية، حيث مسرح دوار الشمس كانت خط تماس بين الشياح وعين الرمانة. ما علينا. بعيداً من رمزية المكانين، وبعيداً من السعي إلى ترميزهما في سياق حدث "ريدزون"، إلا أن هذا المهرجان الذي تنظمه مؤسستا المورد الثقافي وkkv- النروج، يبني لمواجهة مع تماسات مرحلة سلمٍ أهلي مزيف في لبنان وزمن تحولاتٍ في المنطقة العربية.


هو تماسٌ بين الفن والسلطة. ليس الأمر بظاهرة مستجدة، لا على ممارسات السلطة، ولا على مسار الخلق الإبداعي أو الثقافي: لم يجترع سقراط السم لأنه أُغرِم بجولييت، بل لأنه صرّح بما لا يرضي حكام اليونان منذ ما يزيد عن 2400 عام. ولم تكن لوحة "الحساب الأخير" (last judgement)، لمايكل آنجلو، لتتبدل أكثر من مرة، لولا تدخل رجال الدين. هذا ولم نفتح بعد ملف قمع الفكر عبر حرق الكتب والمخطوطات، لأنه من المؤكد أن حرق كتب ابن رشد لم يكن حادثاً عرضياً منزلياً.

هكذا هي الأمور منذ البدء. تلك الأمثلة لا تفترض بالضرورة أن هذا هو الفلك الوحيد الذي تدور في كنفه ثنائية الفن والسلطة وإن كان هذا هو الفلك المتاح في بلدان عديدة، فلا تعني تلك الأمثلة أيضاً الرضوخ لهذا النمط من الثنائيات الصدامية بين السلطة والفن ولربما، من هنا أتت فكرة مهرجان "ريدزون" الذي يُحتفي بدورته الثالثة هذا العام في بيروت. يأتي هذا المهرجان إنطلاقاً من "الحاجة لدعم الفن كوسيلة تعبير ومقاومة الواقع المفروض"، وبناءً على قناعة "المورد الثقافي" بأن دعم الإنتاج الفني هو "مساهمة ضرورية في تطوير البيئة الثقافية والفنون بشكل عام".

من هذا المنطلق، أتى دعم خمسة أعمال فنية تراوحت بين المسرح والرقص والموسيٍقى والتجهيز من مختلف أطياف المنطقة العربية (المغرب، مصر، لبنان، سوريا وفلسطين)، لتقدم للمرة الأولى (3-8 أيار) ضمن فعاليات المهرجان. يلقي هذا المقال الضوء على بعض تلك الأعمال الفنية التي دعم المورد الثقافي إنتاجها، وهي أعمال تتطرق الى تيمات الحرب والعنف والتسامح والجنسانية وحرية التعبير واكتشاف الذات في اللحظة الراهنة.

مسرحية الإعتراف 
تتناول مسرحية الإعتراف تيمة راهنة وجديرة بكل زمان ومكان: الغفران.



بدأ وائل قدور العمل على المسودات الأولى  لنصه المسرحي العام 2013- في إطار ورشة الكتابة للخشبة التي تنظمها مواطنون. فنانون. 


تجري أحداث المسرحية بين العامين 2011 و2012. جلال هو ضابط سُّرِّح من خدمته قبل سنوات من أحداث الثورة. يعيش في منزله مع الجندي رضوان وبرفقة ابن إخته عمر مخرج مسرحي يتحضر لعرض الموت والعذراء لآرييل دورفمان. في اللحظة التي تصل فيها بروفات العرض الى نهايتها وبعد تقرّب كبير بين عمر وخاله، يتلقى جلال تلفون من قيادته التي تعرض عليه العودة الى السلك العسكري. تزامن هذا مع قراءة جلال لنص المسرحية التي عمل عمر على ترجمتها.

ينقل النص لحظة حاسمة أو ساعات حاسمة من حياة شخصياته رغم أنه يتمحور حول حدث بسيط جداً: دعوة على العشاء تضم فريق عمل المسرحية بالإضافة الى جلال ورضوان. أكرم ممثل قديم، قبع في سجون الإعتقال، ويلعب في العرض دور الدكتور ميراندا، وكان بدوره ضحية جلاد. وهيا، حبيبة عمر، تلعب دور بولينا الفتاة التي تعرضت للتعذيب من قبل دكتور ميراندا في النص الأصلي لدورفمان. لهيا أخٌ مفقود. عند اندلاع الثورة تجد هيا صعوبة في استكمال العمل على الصيغة السورية لنص دورفمان خاصةً وأن أخاها بات في عداد المفقودين.

يرى وائل قدور أنه يحاول من خلال مسرحية الاعتراف رصد العلاقة الشائكة بين الفرد والسلطة. جلال أمضى كل حياته يخدم النظام ويستفيد من نفوذ موقعه. هو اعتاد ممارسة السلطة طيلة حياته المهنية إلى حد التماهي. قبل سنوات قليلة من حراك 2011 لا يحصل جلال على تمديد خدمته بل يتفاجأ بتقليص صلاحياته وتجميد مركزه وكأن النظام الحاكم يتخلى عن جلال. ولكن النظام اليوم يريد عودة جلال للخدمة، وهو الأمر الذي يضع جلال على مفترق طرق حاد. هو الذي حاول جاهداً خلال السنوات الماضية مسح ماضيه والاعتياد على حياة مدنية هادئة برفقة قريبه الوحيد المخرج المسرحي عمر.

وعن استخدام  نص دورفمان داخل نص "الإعتراف"، يجد قدور أن استعراض مسرحية الموت والعذراء كان بمثابة مجاز لماضي جلال الشخصي والمهني الذي لا يعترف به بشكل معلن خلال النص. مسرحية دورفمان بهذا المعنى هي مجاز درامي لماضي جلال المسكوت عنه. من جهة أخرى يتأكد المخرج عمر وفريق ممثليه تدريجياً ان خيارهم الدراماتورجي في تقديم مسرحية الموت والعذراء اليوم في دمشق هو خيار ناقص، فالفضاء خارج منزل السجينة السابقة لا زال يحكمه الديكتاتور على العكس من النص الأصلي لدورفمان، وبالتالي يتقوض تدريجيا مفهوم الغفران عبر تتابع مشاهد المسرحية الداخلية وينسحب هذا التقويض بطبيعة الحال ليشمل شخصيات مسرحية الاعتراف الخمس.

أما عن خياره كمخرج للعمل على نص مماثل، فيجد عبدالله الكفري أن حكاية النص بالنسبة إليه هي حكاية مغرية جداً فضلاً عن تركيبة الشخصيات التي جذبته بخفتها وواقعيتها في آن. بعد  التركيز على الدراماتورجيا من خلال تعاون متعددة مع حنان الحاج علي وعلي شحرور ونانسي نعوس، تبدو عودته إلى الإخراج نابعة عن الرغبة في العمل على نص يتحدث عن لحظة مهمة في حياتنا ولكنها في نفس ليست قابلة أن تخضع للحظية معيوشنا وليست راهنة لأن طريقة الحكي ليست مباشرة. فالنص هو نوع من خلطة بين ما هو راهن ومعاصر وما هو مفتوح على الكثير من الأسئلة: سواء أسئلة طُرحت في السابق أو أسئلة تتعلق بالمستقبل. ما لفت عبدالله في نص الإعتراف، هو استخدام المسرح في مواجهة الواقع، ولكن ما هو قوي هو عكسه للأشياء: أي أن الحقيقة تأتي من المسرح واللعب يأتي من الواقع عملياً...

انطلق عبدالله في خياره الإخراجي من فهم النص ومزاوجة هذا الأمر مع فكرة الفضاء اذ تجري أحداث المسرحية  في بيت جلال: هنالك خمس شخصيات داخل هذا المنزل تقوم بأفعال متعددة بشكل متواز... يبدو الفضاء المغلق لمخرج عرض الإعتراف فرصة لطرح تساؤلات حول النص: "كيف يمكنني أن أخلق أحداثاً تتقاطع وتتواصل في فضاءٍ مغلق في وقتٍ كل شيء يحدث خارج هذا الفضاء في سوريا آنذاك كان حاسماً جداً". من ناحية أخرى يجد عبدالله أن تركيبة النص مرنة وفيها الكثير من الفراغات التي تسمح بتقديم مقترحات فنية إخراجية متنوعة.

دخلت مرة في جنينة  
يسائل التجهيز الفني للثلاثي بيسان- كريستيل ووائل، لحظة حميمية في اكتشاف الجسد في أوقات الحرب والسلم أحياناً. تم الإرتكاز في العمل على هذا التجهيز على شهادات حقيقية لأفراد عاشوا تجربتهم الجنسية الأولى في وقت الحرب: يروي التجهيز تجربة سيدة من فلسطين كما يروي حكاية والدتها، وينقل تجربة سيدة لبنانية اختبرت أول علاقة جنسية لها خلال الحرب الأهلية اللبنانية العام 1981، وشاب عراقي عاش مراهقته في فترة الحصار-العراقي الإيراني كما تم الإحتكام الى تجربة صبية سورية خلال فترة السلم وذلك بهدف الإبتعاد عن راهنية المأساة السورية وعدم توظيفها.

هذا التجهيز هو تجهيز تفاعلي مبني على تفاعل فردي مع الجمهور أي One to one interactive installation -  أي أن الفرد يتمتع بمفرده بفضاء هذا التجهيز لمدة عشر دقائق، ثم يخرج ليدخل فرداً آخر على التجهيز.

ترى كريستيل خضر أن الفنانين غالباً ما ينطلقون من هم شخصي. ومنذ عملها مع زملائها على مشروعهم السابق الذي يحمل عنوان "عرض مؤقت" والذي عرض في فرنسا، وجدت أن هنالك بالإضافة الى الهم المشترك الفني الطابع، أسئلة وانشغالات حول الذاكرة وحول التاريخ وكيف يبني الفرد موقعاً لنفسه حول هذا التاريخ وتلك الذاكرة. ما هو موقعنا اليوم كأفراد؟

هذا السؤال دفع كريستيل وزملائها إلى التساؤل حول ما هو أكثر خصوصية: الفضاء الداخلي.

ما الذي يتغير عندما تقومين كفتاة أو تقوم كرجل بتجربتك الجنسية وقت الحرب؟ وكيف تصبح علاقة الفرد مع جسده خلال الحرب؟  كيف يتبدل فضاؤه الداخلي في لحظةً كل ما يحيطه من الفضاء الخارجي يتبدل؟

كيف تنعكس هشاشة المشهد الخارجي على عملية اكتشاف الجسد؟ 
في تجهيز "دخلت مرة في جنينة"، الفضاء هو الذي يروي الحكاية بواسطة بعض الأغراض الموجودة في المكان وبعض التسجيلات الصوتية والحكايات التي كُتبت من خلال الشهادات التي تم جمعها. لن يكون هنالك من أداء بالمعنى الكلي للكلمة. من يدخل الى التجهيز سوف يتبع مسار أصحاب هذه التجارب من خلال فضاء يستلب بعضاً مما اختبروه في أدوات اختارها بشكل جماعي كل من كريستيل وبيسان ووائل علي.

تجربة التجهيز هي التجربة الأولى لكريستيل الآتية من عالم المسرح وقد اجتمعت سابقاً في عمل مسرحي مشترك مع وائل علي وبيسان الشريف ويدعى "عنوان مؤقت". رغم أن هذه هي التجربة الثانية التي تجمعها مع وائل وبيسان الا أن لهذا التعاون تحدياته خاصةً أن ثلاثتهم لا يعيشون في مدينة واحدة. تعتبر كريستيل في كل الأحوال أن هذه التجربة غنية جداً بالنسبة لها خاصةً وأن علاقة العمل تتطور مع زميليها انطلاقاً من هموم مشتركة وترى أن التنقل المتكرر للفنانين نتيجة الحروب أدى أن يتخذ العمل الإبداعي أنماط عمل وأشكال جديدة مغايرة عما سبق.

إقتصاد القوة يدفع الثمن
يقوم هذا التجهيز على فكرة إختيار الدبابات كنموذج يمثل المنظومة الكاملة للتصنيع وما يترتب عليها من سياسات إقتصادية وصراعات سياسية، تأتي على حساب الكثير من الإعتبارات الإنسانية.



يرى محمد المصري أن مشروعه يتناول قوة الإقتصاد واستمرارية الإنتاج وإعاده تدوير الثورة في أشكال مختلفة. على اعتبار أن فعل تغير المادة الى منتج، هو القيمة الحقيقة للثروة فالخرائط السياسية هي ما تحدد مقدار الثروة التي يمتكلها شعب بكل ما تحتويه هذه المساحه من مقومات والقدرة على التغير بالقوة هي المحرك الرئيسي للخرائط السياسية بغض النظر عن العوامل اللغوية او العرقية او الدينية أو حتى الجغرافية. أحد عوامل تلك القوة تصنيع السلاح. تبلغ تكلفة انتاج دبابة فى المتوسط 43 مليون دولار يُستخدم عدد كبير من العمال في عمليات الانتاج، لكن في النهاية لا حاجه الى كل هذه الدبابات في البلدان المصنعة، ولا تستطيع أي دولة أن تتحمل تكلفة تخزين أو صيانة كل هذا العدد من الدبابات، ولا تستطيع أيضًا إيقاف المصانع عن العمل. لذلك وجب، وفقاً لمحمد، أن تباع الدبابات الى آخرين وفي بعض الاحيان وجب إيجاد ضروره لاستخدامها. تنفق الدول المليارات لتصنيع آليات تدمير جبارة ويتم تسويق هذه السلعة المدمرة عبر شبكة كبيرة من المصانع والاتفاقات الدولية وبرامج المساعدات وسماسرة السلاح وبتواطؤ من جنرالات الجيوش والحكومات، لتتحول الموارد الهائلة للشعوب الى ارقام ضخمة في الحسابات البنكية للنخبة...

قام محمد بإعادة انتاج دبابات عبر طلب خاص، وذلك إشارة لتكريس عولمة التصنيع والقرصنة الصناعية التي، هي جزء أساسي من الإقتصاد العالمي، حيث لا تعترف الصين بكل اتفاقيات الملكية الفكرية أو حماية الإنتاج. أُنتِجت الدبابات في مصنع في الصين بصوره طبق الاصل بنفس الابعاد الحقيقة ولكن عبر خامات مختلفة تماماً عن الخامات الاصلية، ثم شُحنت الدبابات الى لبنان وسجلت عمليات التصنيع و الشحن.

لكن ما حدث بالفعل هو أن العمل الفني علق في النظام لأسباب متعددة، إذ إن المشروع نجح فى عملية الحصول على التصميمات، واجتاز مراحل التصنيع وبدأ في التحرك نحو موقع العرض ولكن علق في نظام الشحن والجمارك. وعليه يأتي "العرض المؤقت" كعنوان بديل للعرض الأساس في موقع العرض نفسه والتوقيت نفسه ومع تجهيزات العرض نفسها، لكن المجسمات ليستفي موقعها، ما يدعو الى التساؤل من الجمهور وعدم الفهم: أين العرض؟ ولماذا هو فارغ؟ ليجد الحضور جريدة من صفحة واحدة، يوزع محمد نسخاً منها. تحتوي هذه الجريدة على نص مرفق ينقل الموقف الحقيقي للمشروع: المشروع المؤقت لا يستحضر حالة غير موجودة او يملأ فراغ غياب المجسم، بل هو مجرد مرحلة من مراحل الانتاج، وربما يُعرض المشروع خلال فترة المهرجان، او ربما يعرض بعد فترة المهرجان، لا توجد معلومات محددة.