زياد الرحباني.. اعتراض من عمق "المترو"

روجيه عوطة
الإثنين   2018/05/21
الفنان الراحل جوزيف صقر
لا يمكن قراءة البيان الذي أصدره زياد الرحباني، عن حفلات سامي حواط مغنياً جوزف صقر في "مترو المدينة"، سوى بوصفه اعتراضاً متعثراً يسجله الأصل ضد الفصل، وسبب تعثره أن الأصل يجهل الفصل، وأن الفصل لا يواجه الأصل. 

فالرحباني، وقبل أن يهدد "المترو"، يعاتبه على كونه تجاهَله، كما أن "المترو"، وبدوره، وقبل أن يسمع ملامة الرحباني، لم يجد في أي حديث معه أمراً ضرورياً. الإثنان يتقاسمان الإعتقاد بأن واحداً منهما، أي الرحباني، غائب عن ثانيهما، أي "المترو"، لكن، تقاسم هذا الإعتقاد هو بمثابة تستر على نقيضه.

ففي الواقع، الرحباني حاضر في "المترو"، في عمقه تحديداً، كما أن "المترو"، وحين لا يأتي على سيرة الرحباني، يقدم على ذلك بفعل حضور الرحباني في العمق إياه. الرحباني يطالب "المترو" بالطلوع من عمقه إلى سطحه، لكن "المترو" لا يبدي عمقه، مؤكداً على كون سطحه هو تحت الأرض الوحيد، وألا تحت غيره في أسفله. لا يعلم الرحباني أن غيابه عن "المترو" هو دليل على حضوره الشديد فيه، أي في عمقه، هذا جهل الأصل. كما أن "المترو" يتعامل مع عمقه كتحصيل حاصل، لا داعي إلى تسميته، لجعله مرئياً، لأنه، وإذا فعل العكس، إذا أشار إلى عمقه، سيكشف عن كونه سقفاً له، وهذا تلافي الفصل للمواجهة. بالتالي، اعتراض الأصل الرحباني، على الفصل "المترو"، هو اعتراض العمق على السطح، العمق الذي لا يعرف أنه عمق، والذي لا يريد أن يبقى عمقاً، والسطح الذي لا يريد مواجهة العمق، وأن يبقى محافظاً على كونه عمقاً بلا عمق بعده.

فعلياً، جهل الأصل لا يتوقف عند عدم إدراكه لمنزلته في فصله، بل يتعداه إلى كونه لا يدرك قانونه أيضاً. فالرحباني يقول لـ"مترو" بما معناه "أنا حي أرزق، ومع هذا، لم تستدعِني"، وذلك، بلا أن ينتبه إلى كون "المترو"، وإذا استدعاه، يتخطى قانونه، وهو الإستعادة، وشرطها أن يكون موضوعها ميتاً، ليس فيزيقياً بالضرورة، بل كحالة ماضية، انقضت، أو تبدلت على الأقل، وشرطها أن يكون موضوعها موضوع ذاكرة أيضاً. فعندما يطالب الرحباني "المترو" بجعل الإستعادة كناية عن إستدعاء، يطالبه بحرفها: تحويل موضوعها الميت إلى موضوع لازم، اختيار هذا الموضوع من العمق وليس من الذاكرة، أي سحبه، وليس تذكره. في النتيجة، جعل الإستعادة سبيلاً للإصغاء إلى العمق، وليس سبيلاً منه، كأخرس، للإستماع إلى غيره. لكن تلافي الفصل لمواجهة الأصل، هو بمثابة نكران له. ليس لأن "المترو" يردد: "لا علاقة لي بزياد الرحباني"، على الرغم من العكس الصحيح لهذه العبارة المتخيلة. بل لأنه لا يواجهه سوى من أجل صيانته، كي يحميه من قانونه، من الإستعادة، وشرطها، أي موت موضوعها، وكونه موضوع ذاكرة. وبهذا الصون، وبهذه الحماية، يقي "المترو" تحته من شر إماطة اللثام عن عمقه، كما لو أن المعادلة هي الآتية: كلما استمر الرحباني في الخلود، بمعنى أنه ليس ميتاً وليس حياً، يستمر "المترو" في الوجود باعتباره العمق الأول والأخير، باعتباره بلا تحت. "المترو" لا يواجه الساكن في قراره، لكي يتجنب نفسه، ولكي يتجنب سردية أخرى، أقرب إليه، تحضه على الإتصال بعمقه بلا خوف من خسارة سطحه، أو فقدانه لصورته كجوف المدينة. 

حين يعترض الأصل الجاهل على فصله المتجنب له، حين يعترض العمق على سطحه، لا يفعل ذلك بالإنطلاق من كونه التحت، بل الفوق، والفوق جداً. فالرحباني، غير أنه يطالب "مترو" باستدعائه، يطالب الدولة بتسليط قانونها عليه. بهذه الطريقة، يعود ابن فيروز إلى نسبه الدولتي، إلى الدولة، لكي تحاكم "مترو"، وذلك، بعد أن ينعته بالـ"وكر"، أي مكان اختباء الفارين من عدالتها. وبهذه الطريقة أيضاً، بطريقة تورم الأصل الجاهل بفصله، يحاول الرحباني الطلوع من تحت "المترو" إلى فوقه دفعةً واحدة، وبلا المرور به، أي أن يكون فوق التحت وليس تحته، أن يكون الدولة، وأن يجعل "مترو" خارجاً عليها. وهكذا، الرحباني، وفي نهاية بيانه، يعيد إنتاج صورة "المترو". وهكذا، وبالفعل نفسه، يعيد إنتاج موقعه في جوّه، في "نص" جوه، لكي لا يخضع لقانون الإستعادة، كي لا يموت أو يصير مُعِدّاً للتذكر.

اعتراض الرحباني متعثر ليس بسبب جهل الأصل وتلافي الفصل فقط، بل لأنه، وبعد رص كلماته، لا يؤدي إلى سوى إستئناف ما قبله: هو يصير لازماً أكثر، و"المترو" يحافظ على صورته كجوفٍ لا جوف له. "لا عمق للمترو" يقول الرحباني، "أقيم فوقه"، يضيف، و"لا استدعاء ولا استعادة للرحباني"، يقول المترو، "الرحباني ثابت"، يضيف.

في المحصلة، واستكمالاً للمعادلة المذكورة بين الرحباني و"المترو"، تستحصل الإستعادة التي يتميز بها الثاني، على تواصلها، نتيجة عدم وقوعها على الأول. كأن "مترو" يستعيد كل الفنانين لكي لا يستدعي فناناً واحداً، موجوداً في جوه، لكنه مُنكَر، حفاظاً عليه، وتمسكاً بصورة ذلك الجو. هذا الفنان يدعى زياد الرحباني.