رحيل برنارد لويس...منظّر صدام الحضارات

محمد حجيري
الإثنين   2018/05/21
كان يقول إن اسرائيل وطنه الحقيقي
 من بين الأسماء الأجنبية التي ترواد مخيلتي بشكل دائم، وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، والمستشرق البريطاني برنارد لويس. 

الأول أميركي يهودي ألماني المنشأ ولد عام 1923، ولشدة انغماسه في سياسة الشرق الأوسط، يحسب القارئ أنه لا يزال حياً منذ القرون الوسطى، والثاني ولد 1916 وتوفي قبل يومين، وهو من أصول يهودية بريطانية وعاش في الولايات المتحدة، لا يعمل في السياسة بشكل مباشر، لكنه مهندس أفكار ونظريات أشد فتكاً من السياسة، فإذا كان كيسنجر أحد طباخي الحرب العراقية الايرانية، والحرب اللبنانية، والصراع العربي الاسرائيلي، وصاحب نظرية "التفكيك وتسخين الأزمات". فبرنارد لويس لم يكن يتردد، في تأييد اتخاذ سياسات صارمة إزاء الشرق الأوسط، على سبيل المثال مقولته الشهيرة "كن قاسياً أو أخرج" التي عرفت تحت اسم مبدأ لويس في "القسوة أو الخروج". وأوصى ذات يوم بأن يصار إلى استخدام علاج الصدمة القاتلة. دعا بإلحاح، الإدارة الأميركية أثناء ولاية الرئيس الأسبق جيمي كارتر إلى الشروع فعلاً في اعتماد استراتيجية طويلة الأمد لتقطيع حيز واسع من الجغرافيا الإسلامية وكل الجغرافيا العربية على نحو من الفسيفسائية الهندسية غير المتناغمة...

والجامع بين "السياسي" و"المستشرق"، عدا من التوجهات النظرية، هو حضورهما في العالم العربي، كأن كل ما يكتبانه ينبغي أن يكون موضع اهتمام وجدل، فتتلقف المطبوعات العربية ترجمة كل ما يكتبه كيسنجر، وتحضر كتب برنارد لويس "النخبوي" حتى في البسطات الشعبية. وفي المخيلة، كيسنجر هو مهندس الحروب التي لا تنتهي، ولويس لا تنفصل صورته عن الخرائط التي يرسمها على قياس "الملل والنحل".

ليس الهدف الآن اجراء مقارنة بين "السياسي" و"المستشرق"، بل مجرد تذكير بهما بمناسبة رحيل برنارد لويس، الذي يُعد آخر ممثل للاستشراق الكلاسيكي بعد مكسيم رودنسون وكلود كاهين ولويس غاردييه وسواهم، وهو عاش الحياة بطولها وعرضها وصراعاتها وحروبها، ولد في خضم الحرب العالمية الأولى، ومات في زمن الحرب على داعش، عمل في الجيش البريطاني إبّان الحرب العالمية الثانية، وأحيل إلى وزراة الخارجية، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، عاد أستاذاً إلى مدرسة سوس في جامعة لندن، وتسلّم رئاسة دائرة الشرق الأوسط، وكان الأكثر تأثيراً في كتابة تاريخ العرب والعثمانيين والإسلام وشؤون الشرق الأوسط. وصف لويس نفسه بأنه "بالنسبة للبعض أنا عبقري كبير، وللبعض الآخر أنا تجسيد للشيطان". وكانت آراؤه أثيرة لدى مجموعة السياسيين الأميركيين المعروفين باسم "المحافظين الجدد". اكتسب موقعه العلمي كمتخصص في الفترة العثمانية، إلاّ أن شهرته أتت أيضاً بسبب دعمه لإسرائيل، ما دفعه إلى التبرع بمكتبته إلى مركز موشيه دايان بعد وفاته.


كتب الباحث ديفيد شابا في مجلة واشنطن ريبورت المختصة بشؤون الشرق الأوسط إن لويس "خدم المصالح السياسية الغربية بوفاء على امتداد عقود ولم يخجل من توظيف علمه في تدعيم هذه المصالح متبرقعاً ببرقع الموضوعية الأكاديمية". يعتبر صاحب أخطر مخطط طرح في القرن العشرين لتفتيت الشرق الأوسط. كما كان حسب ما نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" منظرا لسياسة التدخل الأميركية في المنطقة العربية أثناء إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش وحربه ضد الإرهاب. واعتبر شابا ان لويس كان أول من طرح موضوعة "صدام الحضارات" التي روجها لاحقا صموئيل هنتنغتون واصبحت دائمة الحضور في نقاشات اليمين حول الغرب والشرق الأوسط. واجه لويس انتقادات كثيرة، لاسيما في أوساط الباحثين الآخرين في شؤون الشرق الاوسط، وكان من أبرز منتقديه إدوارد سعيد، الذي وصف أعماله بأنها نخبوية وتميل إلى مصلحة التدخل الغربي في شؤون هذه المنطقة، وانه "لا يستطيع ان يفهم الحقيقة البديهية الماثلة في ان معرفة الغرب الحديثة للشرق قامت على استحواذ اوروبيين بالمعنى الحرفي للكلمة على وثائق من الشرق ونقلها ثم دراستها. كيف وأين يفترض لويس ان الباحثين الانكليز والفرنسيين وجدوا النصوص التي استند اليها الاستشراق كعلم؟ هل يعتقد جاداً بأننا نستطيع التظاهر بأن القهر والمصادرة لم يكن لهما دور في ما يسميه ريمون شواب "الخطوات الحرفية" لتاريخ الاستشراق؟"


وبعد 11 سبتمبر، وجد لويس امامه منابر كثيرة. سواء في الصحافة المكتوبة، او في البرامج التلفزيونية تطلب "شهاداته" وآراءه في الاسباب والدوافع. وتحولت معظم تلك البرامج، كما يقول سعيد، الى منتدى يردد فيه لويس سخرياته ودعاباته وقصصه عن التخلف الاسلامي.   
    
كان لويس يُجيد اللغات العبرية والآرامية والعربية واللاتينية واليونانية والفارسية والتركية، امتدت حياته المهنية أكثر من 75عاماً، بدءاً بمقالته الأولى عن "النقابات الإسلامية" المنشورة 1937، وصولا إلى عنايته بسيرته الذاتية عام 2012. وقد كشف أنه في منتصف حياته عام 1969، دخل إسرائيل، وكان يقول للطلبة المبتدئين في إحدى الكليات في إسرائيل إنها "وطنه الحقيقي"، بعد حرب العام 1967 كتب لويس أول مقال له حول الصراع العربي - الإسرائيلي واستنتج "أن الإنسان الذي يتمتع بإرادة طيبة من الصعب أن يكون معادياً لإسرائيل من دون أن يكون ضد العرب". وضع لويس نحو ثلاثين مؤلفاً الجزء الأكبر منها يعالج قضايا الإسلام وتاريخ الامبراطورية العثمانية والدراسات الشرق أوسطية، ولم يكن صاحب "فرقة الحشاشين" بمنأى عن الحركات الاحتجاجية في العالم العربي، وقد أطلق بعض التصريحات، وهو الذي قدم النصيحة لواشنطن وأوروبا من أجل الإقرار بالإسلاميين إثر وصولهم إلى السلطة. وقد رأى أن هذا الأمر يسمح بتحييد الاتجاه الإسلامي الراديكالي، وسيدفعهم إلى الاعتراف بإسرائيل أو على الأقل عدم المساس باتفاقيات السلام الموقعة.