لارس فون ترير يهز "كانّ" منتقماً

شفيق طبارة
السبت   2018/05/19
"لا أعتقد أنهم كرهوا فيلمي كفاية"، صرّح أخيراً
عاد المخرج لارس فون ترير إلى مهرجان "كانّ"، حاملاً فيلمه "المنزل الذي بناه جاك". عاد غير عابئ بإقصائه لسبع سنوات بسبب مزحة ألقاها عن هتلر والنازية، متجاهلاً إبعاد فيلمه عن مسابقة السعفة الذهب، ودخل القاعة على وقع تصفيقٍ حارٍ، رافعاً الفيلم الأكثر إثارة للجدل في المهرجان حتى الآن.

لم تسكت الأقلام أو الألسن منذ عرض "المنزل الذي بناه جاك". فون ترير مجرم، فون ترير غير انساني، فون ترير قاسٍ.. وبعيداً من الكتابات التي تطرقت الى الفيلم، ومن خروج الكثير من مشاهدي العرض الرسمي الأول قبل نهاية الفيلم، بسبب الوحشية والدموية.. فنحن أمام فيلم لمخرج لم يكن يوماً من صنّاع السينما اللطيفة أو المجامِلة. أمّا بطاقة المهرجان فتحذّرنا منذ البداية: "الفيلم عنيف قد يثير الحساسيات". لا حاجة إذاً لهذا القدر من التفاجؤ أو لتضخيم الأمور. فلنغُص أكثر في الفيلم، علّنا نفهم كيف ولماذا بنى المخرج الدنماركي منزلاً لقاتلٍ متسلسل.

القصة عن جاك (مات ديلون)، قاتل متسلسل يسكن في مكان ما في الولايات المتحدة خلال السبعينات، مهندس يحلم بمهنة العمارة، يريد بناء منزل دقيق التفاصيل، ونلحظ هوسه بالكماليات. شخص وحيد، تماماً كحال ضحاياه، باردٌ وممل ويعاني الوسواس القهري، لا يستخدم طريقة واحدة للقتل. أما ضحاياه، فليسوا متشابهين، من بطة قطع رِجلَيها في صغره إلى أطفالٍ ونساء في معظمهمن ثم رجال أكثر مع تقدّمه في العمر.. كل الجثث تذهب الى ثلاجة كبيرة، ومن وجهة نظر جاك هو يمارس فناً، والفن "يتطلب كثيراً من الحب".

ليست الجريمة محور الفيلم. كلّ شيءٍ يبدأ من حوار جاك مع فيرغ (برونو غانز)، ولا نرى وجهه، فقط نسمع صوته حتى آخر الفيلم. أهو معالج نفسي؟ أم أنّه الضمير؟ أم الشيطان؟ المهم أن جاك وفيرغ يتحاوران، يحكي جاك خلال خمس جرائم، من بين عدد كبير من الجرائم التي يرتكبها. تصبح الحوارات شائكة أكثر فأكثر، يبرر القاتل أفعاله، هو مقتنع بأنّه فنّان ويقدم في السياق تبريرات فلسفية فنية بل وتاريخية. ويحضر الخلق، إغراء الجسد، الرعب والعنف، الموت، الفن، الحدود، الخير والشر وربما القليل من السينما... هكذا يأخذ فون ترير فيلماً اعتيادياً عن قاتل متسلسل، إلى الزوايا الفلسفية، ليفنّد الطبيعة المعقدة للإنسان، من "الكوميديا الالهية" لدانتي، فلوحة "فيرجيل في الجحيم" لويليام أدولف بوغورو.. ينغمس في الفن الجميل، وحياة الأديب الانكليزي توماس دي كوينسي وموته، ثمّ موسيقى الكندي غلين غولد المتميزة فنياً..

ذهب النقاش أبعد. جاك معجب بنظرية مهندس الرايخ الثالث، ألبرت شبير، في العمارة، يشرحها، بل ويعظّمها. اوجد فون ترير، في حبّ شخصيته الرئيسية للعمارة، منفذاً لنفسه، إذ لا بدّ من العودة إلى أزمته مع المهرجان حول كلامه عن النازية. بسلاسة سينمائية مستفزّة، رمى فون ترير كلامه من جديد في وجوه من رفضوه وأقصوه.

خلال أعمال جاك الفنية، كما يحلو له أن يسميها، يصف القاتل النساء بالضعف والغباء، هو يسأل: "لماذا النساء بريئات والرجال دوماً مذنبون". هي نقلة نوعية لفون ترير الذي خالف أفلامه السابقة، حيث سيطرت النساء، وكان يتحدّث بلسان حالهن، حتى اتُّهم بأنّه يكتب فقط لهنّ، والآن يسيطر الرجال..


ينمّق جاك جرائمه، بينما نشعر بقوة ضرباته، بحزيز سكينه وحرارة طلقاته. لا يشيح فون ترير بكاميراته. ينقل ألم الضحايا بحذافيره، فيجبرنا على إشاحة أنظارنا وإغلاق آذاننا. هنا يصنع فون ترير خطاً خاصاً به في أفلام الجرائم. لا يخشى حمل الكاميرا حيث لا يجرؤ الآخرون. خلال قتل جاك للأطفال، خرج البعض من صالة السينما. لا حاجة إلى الكلام عن العنف. إنه صريح ويتخطى الحدود، حتى في معيار فون ترير نفسه: "فيلمي الجديد هو الأكثر تطرفاً في تاريخ حياتي السينمائية". يعيد المخرج، مع شخصياته، تعريف كلمات، مثل الوحشية. في مكانٍ ما، جعل العنف ممتعاً، أو كوميديا سوداء، لكنّ الضحك ليس مستساغاً أو مريحاً. نصل إلى النهاية، ولا نتنفّس الصعداء، لا يريد فون ترير لنا هذا. هو يكمل في لامبالاته بمشاعرنا، بعدم اكتراثه لنا، على نغمات الأغاني المستفزة التي اختارها للفيلم، خصوصاً الأخيرة.

ليس الفيلم هجيناً في مسار فون ترير السينمائي التصاعدي. هو سقوط هادئ وممتع نحو الجحيم. ما من شيء لم نشاهده في أفلام فون ترير من قبل. هذا الذي نتوقعه منه. هل يستمتع بالكراهية؟ هل هو سادي؟ هل هو مبتكر؟ هل هو مجنون؟ لا يهم. إنه لارس فون ترير، صانع التحف الذي لا يشبه أحداً.

جاك ليس مجرد قاتل إذاً، وفون ترير ليس مجرد مخرج بكلّ تأكيد. يتماهى المخرج مع شخصيته الرئيسة، جاك هو لارس، لسان حاله وفلسفته وذائقته الفنية. لكن، من هو فيرغ الذي جادل لارس منذ البداية؟ هل يعقل أن يكون نفسه فيرجيل الذي أخذ بدانتي "لارس" إلى دوائر الجحيم؟

الفيلم مقال مرئي عن فون ترير نفسه، عن فنه، عن السينما الدنماركية: "صور الشر أفضل من صور الخير".. ألا يبدو هذا فون ترير؟.. "هل من المقبول أن نتجاوز الحدود الإنسانية والأخلاقية لخلق عمل فني؟ هل دور الفنان هو كشف القبح والشر والذهاب به بعيداً في خدمة الفن والحقيقة؟".. أليس هذا ما تفعله سينما فون ترير؟ تعثّر جاك في بناء منزله وكذلك كان فون ترير متعثراً، بتصريحه القديم عن عدم قدرته عن إنتاج افلام أخرى قبل هذا الفيلم. لا نأمل وداعع لارس فون ترير، فالكراهية مازالت في انتظاره.. "لا أعتقد انهم كرهوا فيلمي كفاية"، صرح أخيراً. يبدو أن هذا سيكون الدافع ليبني لارس منازل جديدة، لا تقلّ في شيء عن المنزل الذي بناه جاك..