"المربع" لروبن أستلوند: ترشيد الخوف

شادي لويس
الجمعة   2018/04/27
الشعور بالذنب دعاية استهلاكية مثيرة للتوجس
"المربع هو ملجأ للثقة والرعاية، وداخل حدوده، كلنا متساوٍ في الحقوق والواجبات"..
كانت هذه العبارة شعاراً لعمل فني، تدور حوله أحداث فيلم المخرج السويدي روبن أستلوند، "المربع"، الذي بدأ عرضه في صالات السينما البريطانية الشهر الماضي.

يسخر الفيلم الفائز بالسعفة الذهبية لمهرجان "كان" في دورته السبعين، من الفن المعاصر. فالفيلم لا يتجاوز كونه مربعاً مرسوماً على أرضية ميدان عام في العاصمة ستوكهولم، ولا تنبع قيمته من أي مقاييس أو مرجعيات جمالية، بل من اكتسابه شرعية اعتراف المؤسسة، أي المتحف الذي يموله، وكذلك من واقع الحملة الدعائية التي تقوم بها وكالة متخصصة في التسويق.

ومع أن نقد الفنون المعاصرة، على خطوط الجماليات والتسليع والاعتراف المؤسسي والتمويل، تبدو معتادة، إلا أن "المربع" لا يكتفى بها. ففي الشعار التعريفي للعمل الفني الذي يتناوله الفيلم، يظهر تناقض علاقات الفني والواقعي بجلاء. فتعيين مساحة محددة للمساواة والثقة المتبادلة في المجال العالم، داخل حدود "المربع"، يؤكد أن تلك القيم هي الاستثناء والمؤقت والغائب، وبالتالي يرسخ ضدها، على عكس ما يبدو معنياً به. فالمربع هنا، وبالرغم من كونه عرضاً في ميدان عام، يظل محتفظاً بخاصية الفنون/الثقافة العليا، بوصفها معزلاً، له حدود واضحة تفصله عن اليومي والواقعي والدنيوي، وكذا كونها "ملجأ": أي مساحة للحماية منفصلة عن العالم ومنغلقة تجاهه، ولا تسعى إلى تغييره أو الاشتباك معه بطريقه فاعلة، حتى حين تدعي عكس ذلك.

لكن الاشتباك بين عالمي الفنون العليا واليومي، له أن يحدث، في شخصية "كريستيان"، أمين متحف للفن المعاصر في ستوكهولم، والذي ينتقل بين المجتمعات المخملية للأثرياء من رعاة الفنون، وبين حياته الخاصة عبر شوارع العاصمة السويدية النظيفة، حيث يرقد على الأرصفة مشردون ومتسولون. إلا أن الرياء الذي يسعى "المربع" إلى كشفه، بين السخاء ببذخ على الفنون، والتبلد تجاه معاناة الواقع التي يتعامى عنها الجميع، لا تقع في فخ الوعظ الأخلاقي بالضرورة. ففي المرة الوحيدة التي يجد كريستيان نفسه فيها مضطراً للدفاع عن امرأة شابة، تصرخ طلباً للمساعدة في مكان عام، ويتضامن مع رجل آخر يمر بجواره بالصدفة، لمواجهة من كان يسعى للاعتداء عليها، يكتشف أن الأمر كله لم يكن سوء طريقة لنشل محفظته وهاتفه المحمول. وكذا، عندما يحاول كريستيان أن يساعد إحدى المتشردات بشراء وجبة لها، فتتعامل معه المرأة المتسولة بفظاظة، خالية من العرفان، وكأن ما تطلبه حق مكتسب لها.


لا يتأسى "المربع" على حال العالم، ولا مبالاته وريائه، بل يتساءل بصدق: هل الثقة ممكنة؟ وهل من جدوى للتضامن في الأساس؟ تبدو تلك الأسئلة أكثر إلحاحاً عندما يتحول "التعاطف" إلى موضوع للتسليع ومادة للاستهلاك الجماهيري. فوكالة التسويق التي يلجأ إليها المتحف لترويج عرض "المربع"، تتوصل إلى أن أفضل وسيلة لاجتذاب الجمهور هي الشفقة، وأن أكثر ما يستدعيها هم المشردون والأطفال، فيختارون طفلة مشردة لتكون بطلة إعلانهم. لكن الشفقة هنا، وحين تتحول إلى عامل ابتزاز، تفرغ من معناها، ويقرر خبيرا التسويق أن تكون الطفلة شقراء، حتى تمثل القيم/الصورة السويدية، وإن تُصوَّر وهي تخطو إلى داخل المربع طلباً للمساعدة والحماية، وفجأة تنفجر. يأتي الانفجار من خارج السياق تماماً، وبلا معنى أو صلة بالعمل الفني. فـ"المربع" كان المقصود به الحماية، لكن خبراء التسويق لا يعنيهم سوى المفاجأة، الصدمة، لفت الانتباه المشتت دائماً، أي الشكل على حساب المضمون، بل وعلى الضد منه. 

وفي عالم يظهر فيه القالب أكثر جوهرية، ولا وجود فيه سوى للصورة، يبدو الشعور بالذنب والقيم الأخلاقية دعاية استهلاكية مثيرة للتوجس، وسبباً إضافياً للتبلد تجاه العالم. لكن تلك الصورية ليست طبيعة عالم التسويق والاستهلاك وحده. فإعلان الطفلة المنفجرة الذي يثير موجة من الغضب في صفوف الجمهور ووسائل الإعلام، ينتهي بكريستيان إلى الإعلان عن استقالته من منصبه. وما يثير حنق أحد الصحافيين في المؤتمر، ليس المشاهد المروعة التي يقدمها الإعلان بدافع الابتزاز العاطفي، بل استقالة كريستيان بوصفها رقابة ذاتية، وتقييداً لحرية التعبير والإبداع. فتتحول الحرية إلى دوغما، وقيمة صورية مفرغة من المعنى، وتبقى وظيفتها الوحيدة هي التملص من المسؤولية، وتفريغ الإبداع من أي حس أخلاقي أو قيم معيارية.

لا يبقى إذاً للجميع، سوى الخوف من الجميع. فالخوف في النهاية أكثر أخلاقية وحميمية من اللامبالاة. فهو يظل شعوراً يتضمن اعترافاً بوجود الآخر، في أقل تقدير، وعلى صلة به، في مقابل نفيه أو تجاهله بالكامل. ومع أن الخوف يسبغ قوة ما على موضوعه، كونه مصدراً للتهديد والتوقير في آن واحد، فإنه يتضمن قدراً لا بأس به من الاتهام وإمكانية الإهانة التي يكون المهمشون والضعفاء أكثر حساسية تجاهها.

فكريستيان، بعد واقعة سرقة هاتفه النقال، يستطيع أن يتتبع موقعه إلكترونياً، وتحديد البناية التي استقر فيها. لكن هذا لم يكن مفيداً. فبناية السكن الاجتماعي الضخمة، تتألف من طوابق عديدة وعشرات الشقق. لم يكن الحل بالصعوبة التي يبدو عليها، فبمعونة من أحد مساعديه في العمل، يكتب رسالة تهديد يطالب فيها السارق بإعادة مقتنياته، ويدعي معرفته بعنوانه، ثم يوزعها على كل شقق البناية.

يتلقى السارق الرسالة بالفعل، ويستعيد كريستيان مقتنياته. إلا أن هذه لم تكن نهاية القصة، فما لم يكن في الحسبان، هو كل هؤلاء الأبرياء الذين سيتلقون الرسالة، وما تحمله من تهديد واتهامات وقحة، بلا ذنب. يظهر طفل، يبدو من مظهره ولغته السويدية المكسرة، أنه تركي أو عربي، ويبدأ مطاردة كريستيان طلباً للاعتذار. فالطفل المهاجر، والذي يتحدث ويتصرف كالبالغين، كانت الرسالة قد سببت له مشاكل مع أسرته، التي ظنت أنه متورط في أمر السرقة.

لم يكن صعباً تبين الرمزية التي يمثلها الطفل داكن البشرة، في عناده وشعوره العميق بالمهانة، كما في ضعفه الشديد وقلة حيلته الممزوجة بغضب وإصرار. لكن العالم لا يعترف بمعاناة هؤلاء، في حملهم لوزر الاتهام طول الوقت، وكونهم دائماً مصدراً لخوف لا يستحقون مهانته، ولا يلتفت أحد إليهم سوى حين يغضبون بسبب هذا كله، فتتأكد كل المخاوف المسبقة.

لا يسعى "المربع" في النهاية، إلى حضنا على التضامن، واستنكار غياب الثقة في عالمنا، أو نبذ الخوف، بل على العكس، يؤكد أن ذلك التوجس من الآخر ربما لا مناص منه، وأن الشفقة ليست تضامناً، بل هي غالباً أداة تسويقية ناجحة لقتل تأنيب الضمير، وأن أقصي ما يمكن أن نصبو إليه هو ترشيد الخوف، ومحاولة تخليصه من التعميم واتهاماته المطلقة والجاهزة.