ارتحال الأمكنة: (استئناف)

المدن - ثقافة
السبت   2018/04/21
الطفل الذي كُلِّف بحمل صينية الشاي (في الصورة)، يتقدم مرحلتَه بخمسين عاما (ربما أكثر)؛ يرتحل في الزمان مخلّفاً الزقاقَ يتفكك في تقاطع تاريخي وراء ظهره وينهار. الطفل في الاتجاه المعكوس ينمو ليغدو مرشّحاً لتمثيل سيرة المكان القديم وترميز ارتحاله في أكثر من نصّ استبطانيّ.

منذ خمسة عقود والصورة تحرس علامةً مجنَّسة، ثنائية الدلالة: الزقاق/ عَقْد. منذئذ شهدَ المكان (زقاق السنك، رأس القرية، عقد النصارى) حدوثَ تحول تراجيدي (مظاهرة، اغتيال، مطاردة) يحفّهُ أذانُ الجامع الظاهر في عمق الصورة خمس مرات كل يوم بترديد مقاميّ ثابت.. المئذنة الشاهدُ على ارتحال المكان المرموز بولادة طفل يشارك في انقلاب أو اغتيال زعيم. الوثيقة/ الحادثة تصاحب الإحساسَ المرتحل، التعاطف أو التقاطع، في نصوص للتكرلي وفرمان ونوري، والجيل المهاجر بعدهم. الحادثةُ ترتحل في صُلب خطاب زمانهم المعقود بطابوقات مفتتة.

أينما ارتحل طفلُ الزقاق (إلى طهران، دمشق، ستوكهولم، لندن) صنعَ لوعيه وجوداً موازياً لعقد الفقدان الخمسينيّ، مؤثّلاً علاماتِه بسيرة لجوءٍ تسلسلية (ثلاثية عبد الله صخي مثلا). سيهتدي نصُّ المهجر بصينية شاي يحملها طفل شبيه بالأصل المفقود منذ نصف قرن. أهذا ما يدعو كاتب النصّ الى "تطريس" مكانه التعاطفي بكتابة مرتحِلة؟ 

يذهب علي الشوك ويحيى عبد اللطيف (جيان) الى تعريف المكان العقديّ بوعي تزامنيّ أكثر حدة؛ المكان بتحولاته المعرفية والسياسية المحصّنة من الزوال. في نصوصهما السير/ روائية تحديثٌ لرؤيةٍ تصارع اندثارها ورجوعها الى أساسها البدئي، افتداءُ المكان القديم بزمانيةٍ تأبى الانعكاس بسهولة، بمحاولة ترحيله بوسائل فعالة كالصحافة والأدب والموسيقى. 

ربما لدينا تنصيصات اكثر استرضاءً لأرواح الامكنة العقدية، غير تسلسلية، لأنها لا تُسترجع الا مرة واحدة من جهات مختلفة، تتمثل في اقتباس سيرة المكان العصية على الاسترجاع والتمثيل عن طريق الترحيل العائلي/ الجماعيّ (سِيَر المدن التي كتبها زهير الجزائري وحسين الهنداوي ومحمد جواد الجاسم ومهدي محمد علي وزيد الشهيد وأحمد الباقري). توفّر هذه السِيَر حمايةً كافية لأطفال اللجوء، وأطفال المعرفة، وأطفال الشعر، كي يواصلوا تمكين رؤاهم في متاهة الأمكنة الموازية، من دون فقدان لحرارة الارتباط الأول.

هل تُصلِح الأمكنة البديلة ما أفسدته حوادث الأزمان الغادرة؟ ما العلامة المكانية التي تقود الارتحالَ البعيد في متاهة العالم (ويحضرني هنا الطفلُ الفلسطيني الذي مرّ يوماً في زقاقنا العراقي)؟

لا أزيد على هذا الاستئناف القسري للأمكنة المرتحِلة بغير هذا المقطع من قصيدة فوزي كريم، حداداً على طفل الأمس الذي استحال سرابا:
"لينزف الآن قلبُك الكريم.
إن طفلاً أطعمْتَه من حليبك حتى استقام
تحوّل ثعباناً.
وها هو يطمع في أن يحيل دماءك بيضاء.
دع كلَّ شيء وراءك"
يفزعُ طفلُ الزقاق لهذه النبوءة المؤداة بصوت "السبرانو"، فيلتف برماد صورته، وينام نومته الأبدية، مشيَّعاً بأذان الجامع القريب.

(*) مدونة كتبها القاص العراقي محمد خضير في صفحته الفايسبوكية
(الصورة من صفحة حقي الخطاط )