"كعكة": سينما باكستانية للتطهر من الذنب

شادي لويس
الجمعة   2018/04/13
قبل عشرين عاماً، وفي واحدة من قرى المنطقة الشرقية، بالسعودية، تقاسمت مع طارق الإقامة في غرفة واحدة، لمدة شهرين. كان طارق وطنياً غيوراً، ككل الباكستانيين الذين قابلتهم بعد هذا، ولا يخفى فخره بخدمته في سلاح الحدود لأكثر من عام، قضاها مصوباً سلاحه في وجه كتيبة هندية، على بعد أمتار قليلة منه. كنا قد أدركنا سريعاً في الأيام الأولى لشراكتنا أننا قد جئنا من مكانين في العالم، يتشاركان الكثير من الأمور، إلا أنهما يختلفان تمام الاختلاف. وكان هذا، ضمن أسباب أخرى، مبرراً للكثير من التوتر الذي شاب إقامتنا المشتركة. 

لكن ما جعل علاقتنا الحميمة كشريكين في السكن، محتملة، هو ذلك الحب الذي تشاركناه للسينما الهندية. فطارق كان مهووساً، بأفلام الجار اللدود، والتي كانت ممنوعة في باكستان. وفي سبيل شبقه هذا، كان في مراهقته يقطع الطريق من قريته، إلى الجانب الأفغاني من الحدود، سيراً على الأقدام، لمشاهدة فيلم هندي جديد. ولطالما أضحكني طارق وهو يخبرني عن سقوط صاروخ، على قاعة السينما الأفغانية، فما كان من المشاهدين سوى أن أخلوا الجرحى، ثم عادوا لمشاهدة بقية الفيلم الهندي كأن شيئا لم يحدث. إلا أن أكثر ما كان مثيراً للضحك، هو حقيقة أن طارق، وقبل دخوله المدرسة، لم يتعلم الأردية، اللغة الرسمية لبلده، والتي لم تكن لغته الأم، سوى من الاستماع لأغاني الأفلام الهندية على الكاسيت. وكانت تلك الأغاني بعينها هي ما يؤنس وحدته بعد يوم طويل من الخدمة على الحدود في مواجهة جنود هنود، غالباً كانوا يستمعون للأغاني نفسها. ولطالما كرر طارق لي، ممازحاً، بعد إعادته لتلك القصة على مسامعي: "السينما هي نقطة ضعف باكستان الوحيدة".

كان طارق، وعلاقتي به، نموذجا مثالياً لتلك السطوة اللينة للسينما، التي لا تعرف حدوداً، ليس بالمعني الرمزي فحسب، بل بشكل مادي جداً أيضاً، وعن المصالحة وتصفيه الحسابات التي تجرى على شاشاتها، وعن المشاعر شديدة الالتباس التي تتولد على خلفية من أصوات موسيقاها ولغاتها.

تذكرتُ صديقي القديم، منتصف الشهر الماضي، مع بدء الصالات البريطانية عرض فيلم "كعكة"، وهو الفيلم الباكستاني الأول على الإطلاق، الذي يحظى بعرض افتتاحي دولي، مصحوباً بجولة لنجومه في العواصم الغربية. استقبل النقاد في بريطانيا الفيلم بحفاوة تليق به، وإن كانت معظم التعليقات بدأت بمقارنة بين الفيلم وإنتاج بوليوود.


وربما كان مخرجه، عاصم عباسي، مدركا من اللحظة الأولى، لثقل الظلال الهندية، التي ستسقط على عمله، من جمهوره في الداخل أيضاً. لذا، بدا وكأنه يتعمد بشكل واع وتفصيلي، تجنب أي شبة صلة بالحس المليودرامي البوليوودي. فدراما "كعكة" الاجتماعية، والتي تدور حول استعادة أختين لعلاقاتهما بجانب سرير المرض حيث يرقد والدهما المسن، نجحت في تجنب حس الملحمية المبالغ فيه، وانكبت على التفاصيل الدقيقة بغية التعويض. وكما تعمّد "كعكة" أن يأخذ مسافة من التيمات الهندية المميزة، فإنه فعل الشيء نفسه مع حس الأمرَكة، الذي اضحى مهيمناً على "بوليوود". لكن هذا لا يعني بالضرورة، أن عباسي قدم خلطة باكستانية خاصة، فالسردية وطريق تصاعدها إلى نقطة الذروة، ونص الحوار الشعري في أحيان كثيرة، والمَشاهد التي يجرى معظمها داخل غرف المعيشة أو المشافي، وزوايا الرؤية المفتوحة كأنها تواجه خشبة للعرض، جميعها بدت أكثر إخلاصاً للتقليد الأوروبية، والمسرحي منها تحديداً، منها إلى السينمائي.

من اللحظات الأولى في المشهد الأول، يبدو واضحاً أن هذه ليست باكستان التي نتوقعها. فالمشاهد المخملية، داخل البيوت ذات الطراز الكولونيالي، وأبطالها بملابسهم الغربية، والذين يتحدثون بخليط من الأردية والإنكليزية تطغى عليه اللكنة البريطانية النقية، والشوارع التي لا نراها سوى في الليل حتى تكون خالية تماماً، والسيارات الفارهة التي نرى المشاهد الخارجية منها، حيث لا يسير أبطالنا في الشوارع أبداً.. كانت وكأنها تجرى في أي مكان آخر غير باكستان. يتغير هذا قليلاً، مع انتقال الأسرة، من كراتشي إلى الريف، للاحتفال بذكرى زواج الأبوين. فيضاف إلى المشهد، الريفيون بملابسهم التقليدية، والأفق بجماليات الجغرافيا الخاصة، إلا أن هذا يظل خلفية للحدث، ولم يكن عنصراً أساسياً منه.

إلا أن هذا الاغتراب، ليست مصطنعاً تماماً، بل لعله يمنح الفيلم بُعداً آخر أعمق، من دون تعمّد. فالفيلم، الذي يدور حول الزمن، كما يقول مخرجه، يبدأ مشهده بافتتاحيه شعرية عن الماضي الواجب مصالحته قبل تحقق المستقبل. وسريعاً ما نجد علاقة، بين التاريخ الكولونيالي، الذي يتبدى في عمارة بيوت أبطاله، وبين ورثته من "الأطفال المعولمين"، كما يشير الأب إلي أولاده في أحد المشاهد. فالأخت الصغرى العائدة من لندن، والأخ الأكبر المتزوج من باكستانية أميركية تماماً، ويعيش معها في الولايات المتحدة، لا ينقصهما سوى تحقق حلم الأخت الوسطى بدراسة خبز الكيك، في أشهر مدرسة له في فرنسا. لكن هذا العالم المفتوح أمام الصفوة المعولمة، من كراتشي إلى نيويورك، مروراً بالعواصم الأوروبية، يحمل ازدواجياته المثيرة للاضطراب. فالأخت الوسطى التي اختارت البقاء في كراتشي، للعناية بوالديها، تهون الحركة البطيئة للزمن وثقل المسؤولية، بعلاقة مع "روميو"، أحد العاملين في بيت العائلة.



إلا أن تلك العلاقة تبقى مضطربة بشكل فريد، لا بسبب كاثوليكية روميو فقط، أو الفارق الطبقي الصارخ بينه وبين سيدته، بل لطبيعتها المشوهة. فعلاقة "روميو" و"زارين" اللذين يقضيان أوقاتاً طويلة يومياً في المنزل نفسه، تبقى إلكترونية محصورة في الفضاء الافتراضي، وتكتفي بتبادل كلمات الغرام في رسائل الإيميل. لكن في العالم الواقعي، إن صح لنا تسميته بهذا، تظل العلاقة على تحفظها، ويقف روميو دائما أمام سيدته، وابنه الرجل الذي خدمه والده أيضا حتى وفاته، برأس منحن، وبذراعين معقودين وراء ظهره في قليل من الانسحاق الوديع.

لكن هذا العالم المعولم والمرقم، الذي سقطت فيه التنميطات الجندرية أيضاً، حيث الرجال يبدون أكثر رقة وعاطفية وخضوعاً في مقابل النساء الأكثر تحملاً للمسؤولية والممسكات بزمام الأمور مع سلاطة اللسان، يظل منقسماً بين داخل وخارج، افتراضي وواقعي. فأبطاله يسلكون بأشكال مغايرة، في سياقين متباعدين إلى أقصى حد عن بعضهما، وإن تزامنا دائماً في كل لحظة.

ينهار ذلك العالم فجأة، مع وصول الفيلم إلى ذروته. فالأخت الصغرى، العائدة من لندن تكتشف أن أسرتها اخفت عنها الحقيقة لوقت طويل، حرصاً على مشاعرها. فالطفل الذي صدمته بسيارتها قبل أعوام عن طريق الخطأ، لم يتعاف كما اخبرتها العائلة وهي ترسلها على عجل إلى لندن. فالطفل القروي مات، وعائلته رفضت قبول الدية، و"روميو"، خادم العائلة المخلص، هو من تطوع لقضاء خمسة أعوام في السجن عوضاً عنها.

لا يكتفي "كعكة" برسم عالم يسقط فيه كثيرون ضحايا، من طريق الخطأ، ويمسون كباش فداء لصفوة بعينها، بل يجسد أيضاً عالماً مفتوحاً بالكامل أمام تلك الصفوة، للهرب إذا ساءت الأمور، والبدء من جديد مرة بعد مرة وكأن شيئاً لم يحدث. ففي هذا الواقع، لا يدفع ورثة القصور الكولونيالية، أثمان جرائمهم، التي يتحملها الضحايا القدامى أنفسهم، وفيه يشفق العالم على صفوته المرهفة من تأنيب الضمير، أو حتى من أن يدركوا بأن هناك ضحايا وما يستوجب الشعور بالذنب.

يحاول عباسي في فيلمه مصالحة عوالمه المنقسمة. فهو يخبرنا أن جرائمها غالباً غير متعمدة، ويمكن معالجتها عبر كشف حقيقة المعاناة، التي طال إخفاؤها. لكن تلك المحاولة، لا تكتمل، فبعد أن تقرر الأخت الصغرى، أن تزور بيت أسرة الطفل، كل ما نراه، هو ترددها وهي تقرع الباب. لا نراها تدخل، أو كيف استقبلها سكانه، أو ما الذي يمكن أن تفعله لهم، ويعوض عن الابن الذي ذهب ولن يعود. هكذا، فإن الفيلم، الذي يبدو إسقاطاً لشعور مقلق بالذنب، نحو ضحايا العالم، بصورته الكولونيالية المحدثة، ينتهي بطقوس مخففة ورمزية للتكفير عن الماضي، بغيه إراحة الضمير، لا تغيير العالم أو قواعده.

يعلق عباسي، في حوار له، بخصوص نهاية أفلامه، بأنه يفضلها مفتوحة، وهذا ربما ما فعله هنا أيضاً. لكن حالة اللاحسم تلك، التي انتهى به "كعكة"، سواء بخصوص الطفل القتيل أو علاقة روميو مع سيدته، لا تعدنا بانفتاح أمام ممكنات عدة، بل وبواقعية شديدة تخبرنا بأن العالم سيمضي على ما هو عليه. وحتى إن كانت قواعده تتغير مع الزمن، فإن جوهرها يظل كما هو.