الثقافة الحدادية أو موضة الهضامة

روجيه عوطة
الأحد   2018/04/01
"أهضموا سقوط السلطة، صيروا حراسها الجدد"
ثمة ثقافة تتفاقم في شيوعها المجتمعي، ومن الممكن تسميتها "الثقافة الحدادية" نظراً إلى أن شخصها النموذجي، الذي يتمكن من صياغتها، ويروج لها، هو المقدم هشام حداد عبر برنامجه "لهون وبس". فحداد، وعلى ما تبدي كثرة من المتفرجين عليه، ما عاد مجرد إعلامي، بل تعدى ذلك، ليغدو مثالاً، يعمد هؤلاء إلى التشبه به من أجل الحصول على موقعه، الذي يفيد بـ"انا مشهور، فأنا محبوب، اذاً، أنا موجود". ولتحقيق فاتحة هذا الموقع، لا بد من تنفيذ أمر بعينه، تفرضه الثقافة الهشام حدادية على المأخوذين بها: "كونوا مهضومين!".

في وقت سقوطه على وقع هجرة جمهوره له إلى مواقع التواصل الانترنتي، قرر التلفزيون المراهنة على مخاطبة ذلك الجمهور بطريقة أخرى. إذ يبين له أنه شرع في التطهر الذاتي، في التنظف من الشوائب، التي أدت إلى إصابته بنزيف المشاهدة. في تلك اللحظة، كان التلفزيون يمر في حالة من التذنب، و"الإستنقاد"، وفي تلك اللحظة بالذات، أراد أن يأتي بمن ينقيه، وبالفعل نفسه، يبث الروح فيه. من هنا، مضى إلى تسليع الهضامة، بحيث أنه، اولاً، جعلها مثيرة، توحي بالموت، وهذا ما يقلبها إلى سخرية موجهة كنقد صوبه، وثانياً، جعلها معدة للاستهلاك، توحي بالحب، وهذا ما يقلبها إلى ما يشبه الدفاع عن مشاهديه. قال التلفزيون لجمهوره: ارجع إلي، فها أنا اسخر من نفسي، وها أنا أدافع عنك مني، وكل ذلك، أمامك!
وبالفعل، عاد الجمهور ليتفرج على تحقيق التلفزيون لوعده حياله، وعندها، وجد أنه صار مهضوماً، بمعنى أنه يهضم نفسه، أي يلتقط كل ما يدور فيه، ويعلق عليه، مبيناً تعثره، وبمعنى أنه، وحين يهضم لحمه، يصرح بنهايته، وبالتالي، يستسلم لإرادة جمهوره الذي كان قد ودعه من قبل، والذي غدا ملتصقاً بشاشة غيره. فبهضامته، يجاهر التلفزيون بكون جمهوره كان صائباً حين بارحه، وبكونه، وبدوره، شرع في إصلاح ذاته، وها هو لكي يجري إصلاحه، يتكئ على "فايسبوك" و"تويتر"، ويحاول هضمهما أيضاً، ليس كخصم له، بل كأنهما حليفه، الذي يستسلم له. وعلى هذا النحو، ولدت سخريته التي تفيد بأن لا شيء يشتغل فيه، وعلى الرغم من هذه العطالة التامة، يدرك كيف يحولها إلى ملاذ له من خلال فعله الأول والأخير، أي عرضها، والتظاهر بأنه، وبذلك، يتجاوزها.

اختار التلفزيون لمراهنته هذه هشام حداد، الذي كان، وعبر برنامجه "لول" على محطة مستجدة، تدعى "أو.تي.في"، قد استدخل النكتة، وقدمها مباشرة وبوفرة بدون أن تمر باسكتشات تمثيلية. ديكور المراهنة متواضع، ولا يحتاج سوى إلى شخصيته، ومساعدها، وفرقتها الموسيقية. الشخصية، أي حداد، نموذج المهضوم، الذي بمقدوره أن يهضم لحم التلفزيون، قبل أن يشره، وبهضامته، يدل على ميديوية فائقة، تتعدى الإعلام إلى العيش. مساعده بمثابة متدرب عنده على الهضامة، أما الفرقة الموسيقية، فهي التي تلحن هذه الهضامة، لا سيما حين تتضمن فواصل غنائية، فبين الهضم والهضم، لا بدّ من سماع بعض الإيقاع، "الروكي" تحديداً، الذي يشير إلى تكسير القيم التلفزيونية المتساقطة.

شيئاً فشيئاً، استحال الاستديو مكتباً لهضم كل شيء، ولأنه كذلك، وهذا هو الأهم، استحال صلة وصل إجتماعية بين جمهور مهاجر ووسيلة قديمة، فهذا المكتب هو الذي يضمن أن يبقي الجمهور عليها في وقت أنها تعرض تداعيها لتجذبهم به. الهضامة، بما هي نقد للمتداعي، وبما هي سخرية لتجاوزه، الذي لا يحصل طبعاً، لأنها تتغذى به، تؤمن للجمهور حلاً لمشكلة عانى منها، وهي أشبه بلهفة المهاجر على أرضه، التي ابتعد عنها حين برزت أرضاً أخرى، حيث يكون ذاته أكثر، أي فاعلاً في إنتاج صورته وفي استهلاكه لها، ولصور أغياره أيضاً. الحل لهذه المشكلة هو الإبقاء والبقاء في تلك الأرض السابقة على شرط أن تعرض تداعيها وتلقيها بهضامة، بهضمها، الذي يرافقه اعتقاد بأنه السبيل إلى تسوية الأمور معها. كلما تداعت، تزداد الهضامة، وكلما ازدادت الهضامة، تبدي تداعيها أكثر، علاقة طردية بينهما، خلاصتها: التلفزيون يعود قوياً من خلال إبداء تداعيه، والهضامة تظن أنها تنجز هدف تخطي هذا التداعي، وذلك، في حين أنها ليست سوى امتلاءٍ به.

فتح مكتب الهضامة بابه لجمهور المتفرجين، ليس، فقط، من خلال استضافة بعضهم، لأنهم، وفجأة، يحققون نسبة مشاهدة عالية في أرضهم الإنترنتية، بل من خلال الإيحاء لهم بأن في وسع أي واحد منهم أن يحل مكان المتدرب، مساعد حداد. وبهذه الطريقة، استقبالهم في المكتب يتطلب منهم الإلتزام بأمره، أي بالتحول إلى الهضامة، ولكن، هذا الإلتزام، أو هذا التحول، له شأن آخر، يتعلق بهم. ذلك، أن الهضامة، وكما تحل مشكلة لهفتهم على التلفزيون، كذلك، تحل مشكلة لهفتهم على أرضه المجتمعية، الأهلية على وجه الدقة، بحيث أنهم، ومن خلالها، يهضمون تداعيها، الذي يسخرون منه، ويعتقدون بأنهم، وبذلك، ينتهون من وطأتها عليهم. إلا أن هذه الهضامة تنطوي على انتفاع بالمتداعي، انتفاع بأرضه، وهي، غالباً، ولكي تطيل الإنتفاع بهما، تتوهم أنهما لا يزالان مسيطرين، وهما، فعلياً، لا يسيطران سوى عبرها. على هذا المنوال، الهضامة، كما وضعتها الثقافة الحدادية، كما وضعتها ثقافة المذيع حداد، الذي من الممكن وصفه بأنه فنان تلفزيوني معاصر، وبالمعنى الرسمي للوصف، هي إعادة إنتاج للسلطة بعد تداعيها.

فالمهضوم، بحسب تلك الثقافة، هو الذي ينقذ السلطة من تداعيها عبر هضمه، والذي يعتقد أنه يثور على السلطة من خلال السخرية عليها، لكنه، عندها، يشارك في إحيائها، والذي يظن أنه يتجاوزها في حين أنه يتمسك بها. لقد رمت الثقافة الحدادية سلاحا، استعماله ضد سلطة التلفزيون وأهله يفيد بـ: اعطيني تداعيك، أسخر منك، فتجدد نفسك. وهكذا، تصير الهضامة على الموضة، لأنها، وككل موضة، وكما يعلم جورج سيمل، توفر الإمتثال مع الشعور بالسيطرة. "كونوا مهضومين" أي "أهضموا سقوط السلطة، صيروا حراسها الجدد".