"كانكان الصغير" لبرونو دومون: الغوص في الوحل.. حتى السماء

رامي صباغ
الأربعاء   2018/03/21
تلتقي الأجساد المتخمة بالواقع مع طبيعة العالم، كالجاذبية والدم والعفن.
في المسلسل التلفزيوني "كانكان الصغير"، للمخرج الفرنسي برونو دومون، مشهد جنّاز كنائسي لامرأة قُتلت بشكل عنيف: كنيسة صغيرة في شمال الريف الفرنسي. يقف الفتى كانكان أمام أهل القرية في زيّ الشمّاس، يحمل بيده مجمرة مليئة بالبخور والأجراس. خلف يمينه، يقف كاهن ومساعداه وراء طاولة ينظرون تارةً نحو الحضور وتارةً نحو كانكان. يرفع كانكان المجمرة ويرنّ أجراسها فينزل الكاهن وأحد مساعديه وراء الطاولة، يختبئ من الحضور وينتظر أن يرنّ كانكان أجراس المجمرة ثانيةً. ينظر كانكان إلى الجميع ثمّ إلى الكهنة يضحك ويهزّ أجراس المبخرة. يُظهر الكهنة عن أنفسهم أمام الجميع مثل لعبة غميضة طفوليّة. يعيدون الكرّة مرارًا حتّى لا يستطيع الكهنة تمالك أنفسهم ويبدؤون بالضحك أمام الحضور المرتبك. يرافق المشهد أداء موسيقي من لاعب الأرغن في الكنيسة في نشاز صوتي كأنّه حماقة موسيقيّة.

يرتكز إخراج برونو دومون على هذا النشاز بين المشهد المرتقب، أي الجنّاز لجريمة مرعبة وإدائه كلعبة استعراض للطفوليّة والحماقة لخلق تنافرٍ تهريجي بين الأجساد وأفعالها، أي البرلسك. كيف تحوّل المخرج الفرنسي الأكثر تجذُّرًا قي سينما القسوة الدراميّة إلى مخرج مسلسل تلفزيوني كوميدي؟ 
 

ما قبل "كانكان الصغير" سبع أفلامٍ دراميّة قاتمة لبرونو دومون، العنف والجنس ثيمات لازمة في سينماه حيث تضمحل المسافة بين الرقّة والتعدّي، الحب والقتل. هو الملحد الرافض للدين والإلهيّة والباحث عن  الصفاء الروحي في الإيمان بالإنسان. يقص في أفلامه أزمات الإيمان والريف في العزلة، أفلامه تتخابط مع الأشكال السرديّة كالبوليسيّة في "إنسانيّة" والبيوغرافيا في كاميل كلوديل وسردياته توصل شخصياته دائمًا إلى لحظات الوحدة في التأمّل الأخلاقي، إلى إقصاء إجتماعي الذي يتحوّل إلى إيلاج يتحد مع الصفاء الروحي من خلال الإيمان بالإنسان.

يقول في حديثه عن فيلمه الدراميّ الأوّل "حياة المسيح" أنّ السير الدينية والإنجيل أعمال شعريّة عظيمة تختزل تجربة روحيّة إنسانيّة وتعبير شاعري للإنسانية. دراسته للفلسفة سارت به إلى تلك القناعات. إنّ الواقع لا يهمّه وأن الفن هو التدخّل واختراع التشكيل الممثل للحقيقة المبتغاة. لذا لا يرضخ لطلب الجمهور بمشاهدة شخصيّات تتصرّف وتتكلّم بشكل مألوف في الحياة اليوميّة فيرفض توثيق الواقع في المتخيّل. يحرّض وريث روبير بريسون، الممثلين غير المحترفين إلى التخلي عن التمثيل الواقعي ولبس عباءة ميكانيكية غير مألوفة ينحت من خلالها واقعًا سينمائيًا مشابه للواقع اليومي لكن دون مصداقيّة في تمثيله.


في "كاميل كلوديل 1915"، فيلمه السابع والخاتم لمرحلته الدراميّة، يسرد دومون مرحلة من ظلِّ حياة النحّاتة الفرنسية حين زجّتها عائلتها بالقوة في مستشفى للأمراض النفسيّة. بالرغم من عدم اقتناع الأطباء بحالتها إلّا أن شقيقها الشاعر بول كلوديل أجبرها على البقاء فيه مدّة ثلاثين سنة، حتى وفاتها. نزوات كاميل الغراميّة وهوسها بالنحات رودان كانت فضيحة للعائلة مما دفع أخاها المتعبّد الشغوف للكاثوليكيّة لوضعها في سجنها الأخير. يستمع الفيلم إلى غياب العدالة الإلهيّة في عملٍ سينمائي يقوم حول الوجه والكلمة. وجه كاميل المرهق مقابل وجوه مجنونات المستشفى، تعاسة متعبة مقابل هذيان عنيف. كلمات كاميل في رسالة حزينة لصديقتها مقابل ما يلفظه أخاها حين يكتب مذكراته التي يتوجّه فيها إلى الله راجيًا الصفاء الروحي بينما ينظر إلى جسده وصدره العاري تحت ضوء القمر في المشهد الأجمل والأكثر قسوة في الفيلم. يعرّف برونو دومون غايته الفيلميّة بالسيرورة في البحث الروحي. يشنّ أعماله بغاية تصوِّر أحداثٍ صوريّة ثم يبحث وراء تلك الصور ناشدًا تخطّيها للوصول إلى ما هو فوق العنف والذلّ والشر حيث الصفاء الروحي. في تكثيف العنف بواقعيّة حادّة وتقليل الطبيعيّة في تمثيل الواقع ومحاكاته، كان برونو دومون أكثر المخرجين قسوةً على عالمه الفيلمي كما على الجمهور، لكنّ ذلك كان قبل كتابة وإخراجه للمسلسل الكوميدي "كانكان الصغير". مسلسل تلفزيوني من أربع حلقات من إنتاج arte عُرِض كفيلم كامل في مهرجان "كانّ" العام 2014.



في ريف شمالي فرنسا، يتابع محققان قضيّة جرائم متسلسلة أيام أعين عصابة من الصغار بتزعمها كانكان ذو الندبة على وجهه. يستخدم دومون السرد التلفزيوني الأقرب من السينما إلى زمن السرد الروائي. ففي السرد التلفزيوني المبني على حلقات متتالية، يتشابه السرد بالرواية الطويلة المبنية على فصول متتالية، تنسج خطًا سرديا تتقاطع فيه الأحداث والشخصيات بمرونة أكبر من السرد الفيلمي الأكثر اختزالًا للأحداث والشخصيات. فالرواية التلفزيونية تتصرّف بالسرد الأفقي وتتوسّع بحكم انقسامها إلى حلقات سردية منفصلة متصلة.


 يعود دومون في حبكته إلى أول أعماله الدراميّة، فالتحقيق البوليسي للجرائم العنيفة التي تعكس عبثية العنف الإنساني هو استعادة لحبكة "إنسانية". الصغار المتسكعون في الريف العابثين بالعنف والعنصرية هم استعادة لشخصيات "حياة يسوع". لكن المحقق يعاني من تشنجات عصبية في وجهه تصعب عليه الكلام، سيقانه تتحرّرك كما لو أنّ لديها شؤونها الخاصة، يتخبط بالكلام كأنه ينسى نصه في منتصف المشاهد، مساعده يسوق سيّارته بحركات بهلوانيّة، فيقلب السيارة على إطارين دون جهد ولا سبب، يتفرّج على تصرّفات المحقق باعجاب وتعجب كأنّه مشاهد معلِّق على الأحداث، يحاول التحاور معه عبثًا. كل ذلك داخل محيط واقعي للحياة الريفية اليومية في الشمال الفرنسي. واقعيّة تقوم على استحضار العالم الطبيعي وثقله، على طبيعة وقوع الأمور من عبء الجاذبية والزمن. يرفض دومون الطبيعية في التمثيل والتوثيق الإجتماعي لكنّه يجعلها طينته السينمائيّة، في لقاء الأجساد المتخمة بالواقع مع طبيعة العالم كالجاذبية والدم والعفن. الكثير من السقوط في "كانكان الصغير"، سقوط للأجساد والأجسام وسقوط الدراما على رأسها، قيام البرلسك في التفاوت بين الشخصيات وأجسامها، كما في التفاوت بين الشخصيات ومؤدّيها. وجه المحقِّق الذي يتخبّط بالتشنجات العصبيّة يشابه واقع سينما دومون المتخبط بالعبثية، وجه يتلقى الكدمات العصبيّة فيما يحدّق في قاع الإنسانية  القاتم.


 
العالم الذي يقطنه فيلم دومون هو عالم في أولى خطوات المسخ نحو البرزخ، وليس من السهل المعرفة إن كان يتحوّل إلى جحيم أو فردوس. ‪ من خلال الندبة علي وجه كانكان، التخبطات في حركة المحقّق، أسنان مساعده المطحونة أو النشاز الغنائي يمتص "برونو دومون" الدراما ويقلبها على رأسها في الكوميديا. لكن كوميديا دومون ليست بالهزل المرح القائم على الخفّة بل بالتصادم بين الأجساد وسقوط الواقع على رأس قاطنيه. يُخرج من الدراما كوميديا تسقط بواقعها ليحوّلها إلى تراجيديا. يصبح "كانكان الصغير" كوميديا- تراجيديا الوحل والسماء.