"الجِلد في اللعبة": نسيم طالب وبديهياته الخطرة

شادي لويس
الجمعة   2018/03/02
ما يريده طالب هو أن نعود إلى زمن عندما كان الملوك يقودون المعارك بأنفسهم
عادة ما ينسب لرجل الأعمال الأميركي، وارين بافيت، صك تعبير "الجلد في اللعبة". فالملياردير الذي يعتبر من أنجح المستثمرين عالميا، طالما وضع نسبة كبيرة من رأسماله في الصناديق الاستثمارية التي أسسها وشارك في إدارتها بنفسه. هكذا فإن من يشير إليهم بالعبارة، هم على شاكلته، أي لديهم ما يخسرونه بالتورط في أعمال الإدارة المالية. يأتي نسيم طالب، في كتابه الجديد، "الجِلد في اللعبة: التناقضات الخفية في الحياة اليومية"، ليوسع استخدام العبارة لتشمل أكثر من مجرد الاستثمارات، وتتمدد لكل عمليات الإدارة واتخاذ القرار والمخاطرة في المجتمع الحديث. 

يعود طالب، كما في كتبه السابقة، ليطرح البداهة بوصفها مفاجأة. فكتابه الثاني والأشهر، "البجعة السوداء"، لا تتجاوز أطروحته المركزية حقيقة أن الأحداث ذات الاحتمالية الإحصائية المتدنية جداً صعب التنبؤ بها. نال الكتاب جماهيريته الاستثنائية، كون نبوءاته عن فشل النظام المالي العالمي في توقع الحركات الحادة للسوق، تحققت بعد صدوره بشهور، أي بحدوث الأزمة الاقتصادية العالمية العام 2008. لكن جماهيرية طالب لا يجب نسبتها إلى نبوءاته فقط، فبالإضافة إلى أسلوبه الشيق، يقدم نقداً لنظام السوق، بتيمات يسارية، ومن موقع الخبير، وفي الوقت ذاته تظل أطروحاته في متناول البداهة الشعبوية، وترسيخاً لخطاب شديد اليمينية.

في "الجِلد في اللعبة"، يقدم طالب نقداً لعمليات اتخاذ القرار، ينطلق من أسس يسارية بامتياز. فحقيقة أن الغالبية العظمي من العاملين في المضاربات الاستثمارية، وإدارة صناديق الاستثمار، والقطاع البنكي لا يتحملون بالضرورة نتائج قرارتهم، تشمل مناحي أخطر من ذلك. فقرارات شن الحروب، على سبيل المثال، لا يبدو السياسيون الذين يتخذونها، طرفاً في تحمل تبعاتها، على عكس الجنود الأدنى مرتبة. فكلما تعاظمت القدرة على اتخاذ القرار، تضاءلت المسؤولية أمام تحمل تبعاته، إلى حد التلاشي، والعكس صحيح. فأصحاب الرواتب، والمستثمرين الصغار، وموظفي المؤسسات متواضعي المرتبة هم وحدهم من يتحمل التبعات المريعة، لمقامرات المضاربين. كما أن الطبقات الأفقر في دول العالم الثالث، تتحمل قرارات الموظفين الدوليين الكبار، واستشاريي صندوق النقد الدولي، بخصوص اشتراطات القروض وبرامج التقشف العام.

لا يقدم لنا طالب الجديد هنا، فماركس كان قد كشف منذ وقت طويل عن واحدة من أكثر خصائص الرأسمالية تدميراً، أي فصل العامل عن السلعة المنتَجة، والمستهلك عن ظروف الإنتاج والمنخرطين فيها، والإدارة عن العامل، وبشكل أكبر فصل الفرد عن نتائج أفعاله وعن كل الآخرين وعن نفسه في النهاية. أما حنة آرندت، ومعها زيغمونت باومان، فقد قطعا شوطاً كبيراً في كشف منطق البيروقراطية الحديثة، فصلاً بين عمليات اتخاذ القرار، والتنفيذ، والنتائج النهائية، وما يمكن أن يقود إليه ذلك من جرائم مروعة، من دون أدنى شعور بالذنب.

يطرح كتاب طالب، واحدة من أكثر معضلات الرأسمالية والحداثة بداهة وتحايلاً على الكشف. لكن إلى أين يقودنا بعد ذلك؟ يدعونا طالب ألا نثق في مديري صناديق الاستثمار، والصحافيين والمحللين الماليين، وخبراء الاقتصاد، طالما أن "جِلدهم ليس في اللعبة". يبدو طالب أحياناً في بعض فصول الكتاب، وكأنه يدعونا ألا نثق في أحد غيره، وفي أجزاء أخرى، يظهر أن مشكلته الأساسية ليست مع النظام القائم في حد ذاته، بل مع قطاع كبير من العاملين فيه. يشن حملة "ضد نخبوية" في مواجهة المثقفين والفلاسفة والأكاديميين، وكل من يمارسون التنظير في "المكاتب والقاعات المكيفة"، كما يقول. ما يريده طالب هو أن نعود إلى زمن ذهبي، عندما كان الملوك يقودون المعارك بأنفسهم، ويتقدمون خطوطها، ويضعون أرواحهم على المحك. يستشهد الكتاب، باشتراك الأمير "أندرو" في حرب الفوكلاند، وقيادة طائرته في المعارك، فيما يلوم كلاً من بوش وتوني بلير على قرار الحرب في العراق، من مكاتبهم. هكذا، يبدو أن الأمر لا يتعلق بأخلاقية شن حرب استعمارية أو المشاركة فيها، بل بمدى الالتزام بروح الفروسية القروسطية  في شنها.

ومن دون حاجة إلى إشارة صريحة، يمكن تصور أن يكون ترامب رئيساً نموذجياً. فرجل الأعمال، ذو التاريخ الطويل، والمستثمر الذي ما زال يحتفظ بملكية إمبراطوريته الاقتصادية، وبالتالي كل "جِلده في اللعبة"، يبدو الأقدر على اتخاذ القرارات السياسية المتعلقة بالاقتصاد. يشترك طالب مع رئيسه النموذجي في معاداة ضمنية للمسلمين والأقليات. ففي جزء من الكتاب، يشرح كيف لفئة صغيرة عدداً من السكان، أن تفرض إراداتها على غالبية المجتمع، ويعتمد طالب على خليط من المعلومات المضللة لإثبات أن "عناد" الأقليات المسلمة في الغرب، دفع مقدمي الخدمات وسلاسل المطاعم إلى الانصياع لمواصفاتهم، وتعميم المأكولات "الحلال"، وفرضها على الجميع.

يتجاوز طالب الدعاية المعادية للأجانب والأقليات التي تتهمهم برفض الاندماج، ليضخم من الفوبيا. فالمسلمون، رويداً رويداً، سيجبروننا جميعاً على أن نصبح مثلهم. هكذا يقدم لنا "الجِلد في اللعبة"، خلطة شعبوية ناجحة إلى أقصى حد، تنطلق من بديهيات، وملاحظات شديدة الحصافة لمعضلات الرأسمالية والمجتمع الحديث. لكنها سرعان ما تنقلب إلى دعوة لمعاداة البيروقراطي، والأكاديمي، والنخبوي، ويتمركز الكاتب ضد دور الدولة في تنظيم المجال العام، وكذا ضد المسلمين والأقليات، لصالح نموذج المستثمر الفرد، والمقامر الشجاع، والملك الفارس، بغية إنقاذ الغالبية التي تعاني جبروت الأقليات.