إنهاء الكلام لجعل القتل صامتاً

روجيه عوطة
الجمعة   2018/02/23
بلا أحرف بلا كلمات
هل تذكرون تلك اللافتة التي رفعها ذات يوم ثوار كفرنبل، والتي تركوها بيضاء سوى من تاريخ إشهارها، وهذا، في حين وضع كل منهم شريطاً لاصقاً، لونه أبيض أيضاً، على فمه؟ لقد أقدموا على ذلك في العام 2011. 

خلال الأسبوع الجاري، وعلى إثر الإبادة المستمرة، التي يرتكبها نظام بشار حافظ الأسد، ومحوره، بحق الغوطة الشرقية، أناساً وعمراناً، نشرت الأمم المتحدة، ممثلةً بـ"اليونيسف"، بياناً فارغاً بالمعنى الحرفي، معلنةً، وفي فاتحته، أن "لا كلمات بإمكانها أن تنصف الأطفال القتلى وأمهاتهم وآباءهم وأحباءهم"، وفي خاتمته، أنها لم تعد تملك "الكلمات لوصف معاناة الأطفال وحدّة غضبها"، مستفهمةً إن كان "لا يزال لدى أولئك الذين يلحقون الأذى كلمات لتبرير أعمالهم الوحشية؟".

مرت سبع سنوات على تظاهرة كفرنبل إذاً، سبع سنوات على قول المشاركين فيها، وبطريقة صريحة، أن الكلام انتهى، وأن وقت الفعل قد حان. بسرعةٍ، فطنوا أن الكلام، ومهما علا وطال وأطنب، لن يوقف الحرب ضدهم، وضد كل السوريين، إذ إن داعيه واضح، وهو الإبتعاد عن أي فعل حيالهم.

فالعالم، وعندما يتكلم في شأنهم، فلكي لا يفعل شيئاً اتجاههم، لا يتكلم سوى ليخفي إحجامه عنهم، أي من أجل أن ينخرط في تأبيدهم. كلامه يقوم بإنكار قتلهم، هذه وظيفته، وذلك، حتى لو كان يدل على شعوره بهم، فهو يبقى مجرد لفظ، ينزله عليهم ليسحقهم، كما لو أنه رب يتحدث، لا ليوحي، بل ليمحو. رب متراجع بامتياز: يرد كل شيء إلى العدم بدلاً من أن يخلقه منه، هكذا يقاصص نفسه، لكي يجري الإنتباه إليه، ليس منهم، بل من سفاحهم. العالم يتكلم كي يسمعه نظام الأسد، ومحوره، لا لكي يتعاطف مع القتلى، ولا لكي يناصرهم، ولا لكي يخبرهم عن إمكان نجاتهم، بل على العكس تماماً، يتكلم كي يتركهم في فنائهم، كي يحشرهم فيه.

ببطء، وببطء شديد، وصل العالم إلى ما كانت تظاهرة كفرنبل قد قالته قبل سبع سنوات. ماثلها في اذاعته أن "لا كلمات"، حذا حذوها، لكنه، لم يعمد إلى ذلك، ليستكمل ما قصدته في العام 2011، أي الحث على الإنتقال من التكلم إلى الفعل، بل إنه استعاض عن قصدها بغايته: يعلن عجزه عن الكلام لكي يتظاهر بالموت، لكي يدعي أنه لم يعد موجوداً. فبهذا السكوت، بزعمه أن المنية قد فاتته، يضمن بقاءه على قيد الحياة من خلال أمرين. أولهما، أنه يكرس موقعه مقابل السوريين، ليس كغير قادر، أو كمتقاعس، بل كجثمان، ففي حال توجهوا إليه، عليهم أن يفعلوا ذلك لـ"يبعثوه"، وعندما "ينبعث"، لا بد من الإقلاع عن مطالبته بأي شيء وإلا سيعود إلى ما كان عليه. من هنا، لا مناص لهم من أن يتوجهوا إليه لكي يعينوه على مبارحة سكوته الجثماني، كما لو أنه يلزمهم بجلب روحه الآفلة. وذلك، بعدما ألزمهم بمخاطبة تثيره. إذ إنه انتقل من موقع بورنوغرافي حيالهم، من مطالبتهم بالكلام القذر (dirty talk)، إلى موقع ثاناتوثي حيالهم، إلى مطالبتهم بسحر استحضاره (necromancy).

وثانيهما، أنه يكرس موقعه مقابل نظام الأسد ومحوره، بحيث أنه، وبزعمه الموت، يبذل أقصى ما في وسعه لكي يلفت نظره إلى إعتراضه عليه. فالعالم دان هذا النظام ومحوره، شجب المجزرة التي يقترفها، وهذا، لأنه يتكلم في أثنائها. "أقتل بصمت"، يطلب منه العالم، "وإلا أعلن نهاية الكلام"، يقرر.

الكلام، الذي يتحدث عنه بيان "اليونيسيف"، هو كلام القتلة، ولهذا، يستفهم إن كانت لا تزال لديهم كلمات "لتبرير أعمالهم الوحشية". البيان الفارغ يسأل التالي: كيف يأتي هؤلاء القتلة بكلامهم مع أنني انهيت الكلام؟ فقد أنهى الكلام لكي يقتلوا من دون ثرثرة، في حين أنه يحض القتلى على "بعثه" من سكوته. فبعد سبع سنوات، العالم يقلد السوريين لكي يخرسهم أكثر، لكي يضمن قتلهم بلا جلبة.