محاكم التفتيش المصرية.. هل تنصف المرافعات الهزيلة ضحايا الفكر؟

شريف الشافعي
الثلاثاء   2018/02/20
ابن رشد ليس البداية
من المعلوم بالضرورة أن "المرافعة" هي تقدُّم المحامي بمداخلة قانونية مدروسة تتضمن دفاعًا عن المعنيّين بالأمر، وبديهي في هذا الصدد أن النوايا الحسنة لا تكفي لرفع الضرر ورد المظالم وإعادة الحقوق.


هذا عن الماثلين أمام القضاء الطبيعي، فماذا عن شهداء الفكر وضحايا محاكم التفتيش في معركتهم القديمة المتجددة ضد قوى التخلف والقهر والتيارات الظلامية، تلك المعركة التي يُفترض أن تكون أسلحتها الحقيقية هي الأقلام المسنونة الواعية؟

يثير كتاب محاكم التفتيش- ضحايا الفكر بين الماضي والحاضر" (*)، الصادر حديثًا للكاتبة دينا أنور (**) إشكالًا جوهريًّا يتعلق بتلك "الدفوع" التي يتضمنها بين دفتيه، التي هي بصيغة القضاء أيضًا "ادعاء المُدَّعَي عليهم أمورًا يريدون بها درءَ الحُكم عليهم في الدعوى".

أما بمنطق الكتاب، فإن الدفوع التي يحتويها هي تلك الانحيازات العقلانية للكاتبة، لصالح ضحايا الفكر الذين تناصرهم، وتقدم من أجلهم "توثيقًا ضد كل ما ارتكب أو يفكر في ارتكاب جريمة ضد الفكر والحرية والرأي".

وينفرط الإشكال المحوري المتعلق بالكتاب إلى تساؤلات فرعية ذات صلة، منها: هل يكفي "الموضوع الكبير" لصناعة كتاب كبير، بمعنى الثقل والأهمية والتعمق؟

من التساؤلات كذلك: هل يمكن التصدي للغوغائيات والجهالات والاستعمالات المغرضة للدين كأداة للترويع والقتل، بمنشورات استثارية استنفارية مضادة في الاتجاه، ولا تبدو في جوهرها مختلفة في النوع من حيث الافتقار إلى التحليل والإقناع المنطقي؟



تقدم دينا أنور في كتابها اثني عشر "دفاعًا بالقلم" عن أربعة وعشرين رجلًا وامرأة "صفّاهم الإسلام السياسي، وانتقم منهم بطرق وحشية وهمجية، وهددهم بالتكفير والحبس"، لمجرد أنهم يخرجون بفكر جديد أو رؤى مخالفة لما هو سائد عند "علماء الأمة".

ينبني الكتاب على المقاربة الثنائية، بحيث يتضمن كل فصل منه مقارنة بين شخصيتين: تاريخية ومعاصرة، ويلخص عنوان الفصل ذلك الخيط الذي يربط بين الشخصيتين أو يبرر الجمع بينهما: "حاولتُ أن أدمج القصص المتشابهة، بين ما حدث للمفكرين سابقًا، وما يحدث لهم اليوم".

وترى الكاتبة أن مصائر هؤلاء القدامى والمحدثين مأسوية وعنصرية، تنم عن "خوف المتأسلمين وأوصياء الدين من المخالفين لهم، وضعف حجتهم المعتمدة على النقل من السلف للخلف، دون إعمال للعقل، ومواكبة متغيرات العصر".

تسعى دينا أنور إلى التصدي للمتشددين من أعداء استعمال العقل في التفكير والتدبير، لتصل في نهاية المطاف إلى اعتقاد راسخ، هو أن محاكم التفتيش عبر الماضي والحاضر وخلال التاريخ كله لا يمكنها أن توقف الأفكار أو ترهب العقول أو تمنع التقدم.

مما لا شك فيه أن إعلاء شأن العقل أمر جوهري عند تمحيص الحقائق وإجراء مراجعات تاريخية دقيقة حول آراء وأحداث تعلقت بها مصائر أفراد مميزين من النخب الفكرية والثقافية، لكن يبقى الفرق كبيرًا بين الدعوة إلى العقلانية، وانتهاجها تطبيقيًّا.

بقدر ما انشغل كتاب "محاكم التفتيش" بالمناداة بالعقلانية بوصفها ترياق التخلص من الفاشية الدينية وطاقة النور التي تبدد السواد، بقدر ما استند في صفحاته إلى تبسيطات بدائية للتعريف بشخصيات الكتاب وطرح أفكارهم بدون تعمق أو إقناع.

ولجأ الكتاب، في مجمله، إلى البيان اللفظي، واستخدام آليات خطابية ومؤثرات شعارية، في إطار الخط الرئيسي غير المحدد، الذي ينبني على مزج ما لا يمتزج بتعسف، لمجرد وجود ملابسات شكلانية يريدها الكتاب أن تخلق تشابهًا بين الشخصيات.

وفق الكتاب، وعناوين فصوله التي تكفي كمؤشر دال إلى التسطيح المخلّ، فإن ما يجمع بين "ابن سينا" و"نوال السعداوي" هي "تهمة الإلحاد"، هكذا أرادت الكاتبة قصر التهمة عليهما دون سواهما، ليكون عنوان هذا الفصل: "ابن سينا - نوال السعداوي.. تهمة الإلحاد".

وهكذا تأتي فصول الكتاب كلها، بثنائياتها الغرائبية، واستنباطاتها الارتجالية التي لا تقوم على أي منطق تحليلي أو قياس تاريخي يبرر الجمع بين أفراد متنافرين زمنيًّا ولا تجمع بينهم اهتمامات مشتركة، لكنها الكاتبة الداعية إلى العقلانية أرادت للحدث المقحم أن يجمع بين الثنائيات على هذا النحو اللاعقلاني.

تمضي فصول الكتاب على هذا النحو: "الطبري - نجيب محفوظ.. محاولة الاغتيال"، "غيلان الدمشقي - فرج فودة.. المناظرة القاتلة"، "عباس بن فرناس - يوسف شاهين.. الاتهام بالجنون والوصول للعالمية"، "أبو نواس - أحمد ناجي.. الخلاعة وخدش الحياء"، "الجعد بن درهم - باقر النمر.. الذبح للمخالف"، "المعري - نصر أبو زيد.. الردة واليأس والهروب".


ومن فصول الكتاب الأخرى: "ابن حزم - إسلام بحيري.. أسلوب الصدمة وانتقام السلطة"، "الحلاج - خليل عبد الكريم.. الألقاب المشككة في العقيدة"، "السهروردي - حسن شحاتة.. الشيخان القتيلان"، "أبو بكر الرازي - فاطمة ناعوت.. شجاعة الاعتذار لا تكفي"، "ابن المقفع - سيد القمني.. تصفية الحسابات وتهمة الزندقة".

في سياق كل فصل يمزج شخصيتين وفق هذه الملامح الفضفاضة، يمضي "العرض" (وليس التحليل) بأسلوب حكائي فوقي، يسرد "قصة" كل شخصية، وسيرة حياتها الموجزة بدون تقصي جوهر أفكارها، مع إبراز الحدث محل التوافق بين الشخصيتين، وهو "محاولة الاغتيال" مثلًا في الفصل الذي يجمع "الطبري ونجيب محفوظ".

في هذا الفصل، تلوي الكاتبة عنق الأحداث، لتجعل الإمام أبو جعفر الطبري ونجيب محفوظ صنوين، حيث يشتركان في "التميز والهدوء والرؤية العميقة والنبوغ الفكري وسماحة الأخلاق، والرغبة في الثورة والتجديد"، ومن ثم تمرد الطبري على المذهب الحنبلي السائد في عصره في بغداد، وثار محفوظ على الكتابة التقليدية مقدمًا روايته الصادمة "أولاد حارتنا"، وتعرض كلاهما للاغتيال بسبب مخالفته السائد والمألوف.



وبعد ما تسرده دينا أنور عن الطبري ومحفوظ بوصفه تشابهًا أو تطابقًا بين الحالتين، تستطرد ممعنة في البيان المستخف بالعقول: "من خلال ربط أحداث الماضي بوقائع الحاضر، لا نجد اختلافًا جوهريًّا بين المتشددين سابقًا والمتطرفين حاليًا، فالمنهج التكفيري لديهم هو إرث غالٍ وميثاق غليظ تتوارثه أجيالهم وتتناقله كتبهم ويروج له شيوخهم، الخ".

وفي فصل "ابن سينا - نوال السعداوي.. تهمة الإلحاد"، تنطلق الكاتبة من اليقين الأحادي، لاجئة إلى العبارات العاطفية لخدمة أفكار جاهزة لا تناقشها، ولا توثقها عند نسبتها إلى آخرين: "شيء مخجل ومؤسف في آن واحد أن تجد احتفاءً من الغرب بشخصيات عربية عاشت تحت لواء التاريخ الإسلامي تعاني من تهمة الإلحاد والشرك بالله والتشكيك في العقيدة والردة عن الإسلام، بينما الغرب يهتم بعلومهم ومنتجاتهم الفكرية والأدبية ويعكف على دراستها والاستفادة منها".


وتمضي في سردها حكايتي شخصيتيها: "هكذا كان الحال قديمًا مع الطبيب والفيلسوف والعالم الفذ ابن سينا، وكذلك هو الحال الآن مع الطبيبة والمفكرة والروائية الجريئة نوال السعداوي. أما عن سيرة ابن سينا، فهو عالم وفيلسوف من بخارى.. الخ. وأما نوال السعداوي، فهي طبيبة وناقدة وكاتبة وروائية مصرية، مدافعة عن حقوق الإنسان.. الخ".

ولا تناقش دينا أنور أطروحات المعري الفلسفية ولا رؤى نصر أبو زيد بعمق، في الفصل الذي يجمعهما، ولا تبلور أي تشابه بين منهجيهما، إنما تكتفي بمواصلة لعبتها الطفولية بخلق مشترك مجاني ساذج باعتباره يخصهما وحدهما: "الحكم بالردة، والهروب الاختياري، مصيران اجتمع عليهما مفكران لا يختلف التاريخ على عمق رؤيتهما وجرأة طرحهما: أبو العلاء المعري، ونصر أبو زيد، الخ".

وثمة فصول تكاد تصل إلى الفانتازيا الهزلية، من حيث الإفراط في محاولة المقاربة بين شخصيات يصعب توفيقها في سياق واحد على أي مستوى من المستويات، فضلًا عن السرد العجائبي المدرسي الذي يشبه حواديت ما قبل النوم، كما في الفصل الذي يجمع بين يوسف شاهين وعباس بن فرناس.

وترى الكاتبة أنهما لم يسلما من مطرقة الإيذاء، فقط لأن حماة التعصب "يقلقهم العلم، ويؤرقهم الفن، ويقتفون آثار المبدعين لرصد تجاربهم ووأدها في مهدها، خوفًا من انتشارها، وسيطرتها على عقول العامة".



ومن الفصول الأخرى التي يتجلى فيها البون الشاسع أيضًا بين المثالين المقرونين بإجحاف مع تفريغ للأحداث من دلالاتها: "أبو بكر الرازي - فاطمة ناعوت"، "ابن المقفع - سيد القمني"، "الجعد بن درهم - باقر النمر"، "ابن حزم الأندلسي - إسلام بحيري".

كتاب "محاكم التفتيش" لدينا أنور، يصرخ مكررًا الدعوة إلى إحياء العقل، والثورة على الموروث، وتمحيص الحقائق والأحداث التاريخية بعناية، وإضاءة الأفكار الجريئة المستنيرة، لكنه على المستوى الذاتي، لم يسلك أي مسار من تلك المسارات على نحو عملي تطبيقي في الكتابة البحثية التحليلية المقنعة، فهل يمكن تصديقه أم أنه يصب في مصلحة خصومه؟!


(*) "محاكم التفتيش – ضحايا الفكر بين الماضي والحاضر"، دينا أنور، دار "ابن رشد"، القاهرة، 112 صفحة، الطبعة الأولى: ديسمبر 2017، تصدير: جابر جاد نصار.

(**) دينا أنور، صيدلانية وكاتبة وإعلامية وناشطة مصرية في مجال حقوق المرأة وحرية الرأي.