مجانين

رشا الأطرش
الخميس   2018/02/01
ديوك الطوائف سيحققون مكاسب جدية من هذا السيرك المفتوح (المدن)
إذا لم يكن الهراء الذي يسود الأجواء اللبنانية راهناً، هو الدلالة الأوضح والأصدق على وَضاعة الحياة السياسية و"الأهلية" اللبنانية، بدءاً من شتيمة وزير الخارجية جبران باسيل لرئيس مجلس النواب نبيه بري، ثم القذاعات التي تراشقها مواطنو مواقع التواصل، ومعهم إعلام محلي تُخاض به معركة الصرف الصحي المستمرة منذ أيام، وصولاً إلى فلتان مسلحي حركة "أمل" في شوارع بيروت وأحيائها السكنية المبتلاة بمقرات "التيار الوطني الحر".. فإن الخبر الذي شغل اللبنانيين أمس، لساعات، هو الوحيد المتمتع بفرصة أفضل من كل هذا القماءة لنَيل جائزة أفضل ممثل للحياة العامة في البلاد. 

إذ أعلنت واحدة من "أرقى" الصحف اللبنانية، صباح أمس، أنه "نتيجة أخطاء ارتكبها حراس مدخل مستشفى المجانين في بصاليم في المتن الشمالي، فرّ حوالي 280 مريضاً مجنوناً بأقصى الحالات العصبية وهم في ثياب النوم وانتشروا في الطرق وشكلوا ذعراً وخوفاً كبيراً". وأضافت أن "أحد المجانين صعد إلى سيارة توقفت له وعندما جلس بقرب السائق قام بعَضِّه، فأوقف السائق السيارة وهرب، كما أن هنالك مرضى مجانين يدقون في هذا الليل على أبواب بيوت ويصرخون وتحتاج القوى الأمنية الى أكثر من ألف عنصر لجمع 280 مريض مجنون بأقصى الحالات العصبية"...

للمرء أن يربأ بنفسه اقتطافَ المزيد من الخبر، الذي يبدو أن خيال المحرر ابتدعه متأثراً بشخصية "المجنون" في أفلام الربع ليرة، وليس أرخص منها سوى قاموس مفرداته وأسلوبه الوصفيّ المُفتقَد في تقارير مُخبِري الأزقة. لكن يكفي القول إن هذه "الصحيفة"، أجبَرَت، بهذا "الخبر" السوريالي، القوى الأمنية والعديد من وسائل الإعلام اللبنانية الأخرى، على تضييع وقت وجهد لرفع سماعات الهواتف والاتصال بإدارة المستشفى وإصدار بيانات النفي، في محاولة لضبط حالة ذعر حتمية. والنتيجة أن الصحيفة وخبرها السينمائي، يجسدان، ربما أكثر مما نعي جميعاً، لبّ الاجتماع اللبناني: رثاثة لا حلّ لها، وسِيرك مفتوح بلا متعة.

للتعامل مع الحدث الأمني والسياسي، اليوم، طريقة واحدة: السخرية المتوافرة مادتها بالأطنان. الهزء، رغم النيران الناشبة في الطرق، والتعديات على أملاك عامة وخاصة، والهلع المستعاد من أيام الحرب الأهلية. الهزل، رغم التأثيرات المتوقعة، في الاستحقاق الانتخابي، وتوازنات القوى، وصلاحيات المؤسسات المختزلة في ديوك الطوائف الذين سيحققون مكاسب جدية من هذا العَرض المثير للقرف. السخرية، كتسلية مُرَّة، وإلا فالغرق في اشمئزاز مميت. ذلك أن التحليل السياسي سيبدو مثل مدفع يُراد به اصطياد صرصار، اللهم إلا إذا دُبّج بأدبيات الطب النفسي. وهذا، حتى الآن، ما لم يتصدّر له عقلٌ في مختبر الأرز.

لكن الحق يجب أن يقال: لقد بدا لبنان، أمس، أكثر انسجاماً مع نفسه من أي يوم آخر. فخَبر "المجانين" جاء في لحظة ذروة، ذروة المسّ اللبناني، والتي بَلَغها الشأن العام بسرعة قياسية على صهوة "الفَجَع" للسلطة. وبدلاً من أن يشكل الخبر إياه، تناقضاً صارخاً مع العَيش اليومي "الطبيعي"، فقد اندرج فيه وكمّله ورفده بالمعنى. الكذبة الصحافية المبتذلة، صارت الكاريكاتور المعبّر. لا افتعال، ولا عشوائية، ولا ارتجال. حتى الجهل بماهية الأمراض النفسية والعصبية، هذا الجهل المثير للغضب، والواضح في صياغة الخبر وانتقاء الصورة النمطية المهينة لإنسانية المرضى النفسيين، هو متّسق تماماً مع المجتمع المسيّر غرائزياً بخطاب الكراهية والإقصاء والوصم، اتجاه "الغرباء" و"أبناء الطائفة الكريمة الأخرى" وسواهم من شمّاعات الانحطاط والتخلّف.

ولو أن الحال غير الحال، فإن خبر "المجانين" – وسيان ههنا إن كان صحيحاً أم مُختلقاً – كان ليؤرشَف بطريقتين لا ثالث لهما: أولاً، كنموذج للإعلام الساقط يُدرّس لطلاب الصحافة، بعد محاكمة الصحيفة والقائمين عليها. وثانياً، كاستثناء يؤكد سويّة جريان الحياة خارج أسوار المستشفى. لكن الحال هو الحال. وإذا كان بين اللبنانيين، لوهلة، من أخافهم أو أقلقهم الخبر، فإن هؤلاء سرعان ما تعافوا من هلوساتهم، ليستعيدوا سكينة الجماعة. الجماعة التي لم ولن تهرب. والساعات القليلة التي ساد فيها وَهمُ السَّواد على خلفية بيضاء، أو العكس بالعكس، انقضت بسلام، وعاد الرمادي لينسكب على المشهد، لا تحدّ تدفّقه حدود.