"بيت نجم".. معركة جديدة على جثة اليسار المصري

أسامة فاروق
الأحد   2018/12/09
حتى الآن على الأقل- أن نلوم رجل الأعمال على مشروعه
الحكاية أن ساويريس اشترى بيت نجم. 
رجل الأعمال نجيب ساويرس اشترى البيت الأخير الذي سكنه الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم قبل رحيله. رجل الأعمال قال إنه سيحول البيت الى متحف تخليدا لذكرى الشاعر الراحل، قال ذلك في حفل توزيع الجائزة التي أطلقها بإسمه بعد رحيله.

كانت الأمور تسير على ما يرام، ليلة هادئة، وأجواء احتفالية ومباركة للفائزين، لكن الجملة التي بدت عفوية على المسرح ونالت الاستحسان والتصفيق، كان لها وقع مختلف على مواقع التواصل. الثري الشهير ينقض على بيت الشيوعي العتيق، هكذا كانت المسألة ببساطة ومن دون تجميل، إشتراه كما يشترى كل شيء، حلية جديدة يضيفها لبذلته اللامعة، وما حاربه نجم طوال عمره يرتد عليه في غيابه، ينتزع بيته ويطالب أحبابه بالتبرع بما يملكونه من ذكريات.

ساويرس قال كلاماً جميلاً في حق نجم، الذي كان صديقه بالمناسبة في أعوامه الأخيرة، قال إنه يعتبر الجائزة التي أطقها بإسمه أفضل الأشياء التي صنعها في حياته على الإطلاق، وهي كلمة كبيرة من رجل حقق الكثير من النجاحات، قال أيضا إنه أصبح يتجنب الحديث عنه لأن سيرته الجميلة تطلق دموعه القريبة، وهو بكى فعلا في الحفل نفسه العام الماضي أثناء حديثه عن نجم.

الجائزة ليست دليل المحبة الوحيد، وها هو يريد أن يثبتها بدليل جديد، لكن كان للمحبين الآخرين أسئلتهم التي لا يمكن تجاهلها، عن رمزية امتلاك البيت، والسعي نحو ذكرياتهم هم أيضا، وكأنها محاولة لاحتكار الفاجومي شاعر الفقراء وصوتهم، قالوا إن ساويرس كان يستطيع أن يبنى متحفا لنجم في أي مكان، في الشرقية حيث ولد نجم، أو في القاهرة التي شهدت انطلاقته، أو حتى في الجونة التي يملكها، لكن لا، لن تصلح الجونة، نجم نفسه كان سيعتبر الأمر مسخرة.

على كل حال، اختيار المنزل موفق جدا، فمنازل نجم –بعكس الجميع- لم تكن بحثا عن الاستقرار بل كانت غرف عمليات شاهدة على كل ما يجري من تحولات، فمنها خرجت أهم وأشهر قصائده، وأصبح مع رفيقه الشيخ إمام من نجوم مرحلة من أشرس المراحل على المستوى السياسي والاجتماعي. المنازل تكتب سيرة نجم نفسه، فمع تنقله فيها ومن حديثه عنها يمكن مراقبة تطور أفكاره وأشعاره، المفارقة أنها –بعكس الجميع أيضا- لا تحدد مستواه الاجتماعي الذي لم يكن ضمن اهتماماته، فالأموال لم تكن تحدد موضع سكنه، لكن ربما ترسم طريقا لتحركاته وجوقته داخل المدينة.


جمهورية الصين الشعبية 
"أنا قبل ليلة حوش آدم الأولى كنت مجرد مواطن عادي من رعايا جمهورية الصين الشعبية المعروفة إدارياً باسم: بولاق الدكرور"، شهدت غرفة بولاق أول ملامح استقرار نجم في القاهرة، بعد تخبط طويل بين الملجأ والسجن وأرض الله الواسعة، غرفة "بعفشة ميه" مشتركة في بيت أم عبلة التمرجية باثنين جنيه في الشهر، لكن لم يستمر فيها طويلا، ففي مرحلة سعيه نحو الاستقرار، والتي مارس فيها أعتى درجات الصعلكة في الوقت نفسه ترك "عفشه" الذي حضره لزوجته المستقبلية وهجر بولاق الدكرور إلى منزل حوش قدم، أو حوش آدم في القاهرة القديمة بعد خلاف مع صاحبة المنزل التي بدأت في "تلقيح الكلام" عليه بسبب تأخر الإيجار ولم يكن يحب ذلك أبدا.

بدأ نجم فور أن حط الرحال في حوش قدم بالاندماج في الحياة العامة للمنطقة والتعرف على الخريطة الاجتماعية في هذا المكان العجيب "سكان الحوش ماهماش من أصل واحد.. رغم انصهارهم في نسيج واحد.. فمثلاً فيه العدوية النازحين من بني عدي في الصعيد ودول بيشتغلوا في صناعة السجاد والعيش والجزارة وفيه الواحية ودول أمهر ناس في تزويد قاهرة المعز بحبوب منع الفهم ودا تعبيرهم عن الفول والعياذ بالله وخطورة الواحية النازحين من الواحات الداخلة والخارجة إنهم يبلعوك الحبوب الملعونة دي وأنت في غاية الانشكاح والانبساط من طعامة الفول وحلاوته، وفيه النمارسة اللي هما من أبو النمرس بلديات الشيخ إمام ودول تجار الصيني أيام العز والألامونيا والميلامين وجميع مشتقات النفط من العصر الحديث".

بعد تعرفه على الشيخ إمام أصبح المنزل المتواضع خلية عمل وبؤرة قلق للنظام المصري، يستقبل يوميا عشرات المثقفين والفنانين، يقول نجم في مذكراته عن تلك المرحلة: "النهاردة بقى راجع لك يا حوش آدم فارس على رأس كتيبة من المثقفين أذكر منهم الشاعر فؤاد قاعود والروائي الناقد علاء الديب وفنان الكاريكاتير الكبير محيي اللباد والرسام الصحافي مصطفى رمزي وأخيراً وليس آخراً حجازي الرسام وما أدراك ما حجازي الرسام.  كل دول كانوا جايين بناءً على اقتراح الشاعر فؤاد قاعود وعشان يسمعوا الشيخ إمام في أول زيارة سياحية لهذا الموقع النائي في أحشاء جمهورية القاع على هوامش المدينة الرهيبة، قاهرة الستينيات".

تحولت الغرفة إلى ورشة عمل في النهار وفي الليل يتجمع السُمّار ليسمعوا ويتناقشوا ويشجعوا الثنائي على الاستمرار والمزيد من الإبداع، وأضاف الشاعر فؤاد قاعود للجوقة إضافة كمية ونوعية، وتمخضت التجربة عن مجموعة من الأغاني التي كتبها فؤاد شعرا حرا – ولحنها إمام، منها: "أحزان القرد، والشجرة بتخضر، وحبيبتي بنت أرض، والبياع".. إلخ. على الجانب الآخر كتب نجم: "على حسب وداد، وعصفور وصياد، وأبوك السقا مات، والحمام الإمري" التي وصف فيها الأوضاع وقتها.

دبت في المكان روح جبارة بمرور الوقت، واتسعت الدائرة وزاد عدد المريدين والأصدقاء، وبدأت أجهزة التسجيل تأخذ مكانها في الغرفة وكأنها جزء من الديكور الثابت، وبدأت أجهزة الأمن أيضا في تتبع الثنائي حتى داخل غرفتهم الضيقة، وبدأ الثنائي يتعرف كل يوم على أناس جدد "كنت فرحان ومتونس.. وكل يوم أتعلم حاجة جديدة وكل ما كنت باتعلم حاجة جديدة كل ما كنت باكتشف جهلي وأضحك على نفسي.. أضحك على أفكاري العبيطة وتصرفاتي الانتهازية".

غرفة عمليات حوش آدم
"زي ما خرج أبونا آدم من جنة رضوان، خرج حفيده الفاجومي، من جنة حوش آدم" في خلاف لم يوضح تفاصيله مع الشيخ إمام، لكنه لم يستمر طويلا وعاد مجددا إلى رفيقه القديم "بمجرد رجوعي لحوش آدم إتلم الشمل والبيت نور من جديد ورجعت الأنغام تلعلع من تاني.. كل يوم نغم طالع بيزف مولود جديد.. يا حلاوة مصر لما تغني ويا حلاوة المغنى لما يطلع من قلب مصر".

بعد النكسة خرج أول البلاغات الحربية من غرفة عمليات حوش قدم. كانت قصيدة "الحمد لله خبطنا" التي ظلت مطاردة لعقود وربما حتى الآن، انتشرت بسرعة بالغة لأنها كانت أول اشتباك بين نجم وبين السلطة وأول هجوم صريح وجريء على عبد الناصر شخصياً.
"ماسورة صرف (غير صحي) انفجرت في حوش آدم غرقت البيت رقم 2 بسيل من المثقفين والأفندية.. واتحول بيتنا التافه الحقير بين يوم وليلة إلى مزار مقدس ينحرق على بابه البخور، وتقام الشعائر والطقوس، وسبحان الذي يغير ولا يتغير!". غالبية الرموز الثقافية والإعلامية والفنية زحفت لترى وتسمع وتندهش من القدرة العجيبة لهذا الثنائي على المقاومة والصمود والإبداع والخروج من ضيق السجن وضيق السكن إلى رحابة العالم الواسع.

في تقديمه لمذكرات نجم يقول الكاتب والمؤرخ صلاح عيسى إن آخر ما كانوا يتصورونه هو أن يكون هذا الشاعر "الصعلوك" هو صوت الغضب القادم، "وأن تكون تلك الغرفة الفقيرة العاطلة عن الجمال والجلال، هي مجمع أحزاننا المستجدة وبئر أحلامنا العميقة. مع أنها – مكاناً وسكناً – تكاد تخلو من كل المؤهلات التقليدية التي تجعلها صالحة لذلك، فلا "تاريخ نضالي" ولا "عذاب سيزيفي" ولا "غربة وجودية".. بل مجرد غناء عذب، شجي، بسيط وصوت واثق قوي، وسخرية تفجر الضحكات والدموع. وجسارة لا تخاف ولا تتردد ولا تحسب، لأنها لا تملك ما تخاف عليه، ولا تسعى لكي تملك ما قد يجعلها تخاف عليه".

تاريخ خاص
سكن أحمد فؤاد نجم بيوتا أخرى غير بيت حوش قدم، لكنه الأشهر بينها، وفوق التاريخ الذي صنعه هو والشيخ إمام، فللبيت نفسه تاريخه الخاص أيضا، ربما غاب عن صلاح عيسى. فبحسب رواية الكاتب عبده جبير كان ملكا لعائلة تسمى عائلة "الشعبيني"، وكان ملحقا ببيتين تمتلكهما هذه العائلة العريقة، ويسمونه "بيت الخزين" لأن العائلة القديمة كانت تخزن فيه تموين العام، وبعد زمن خصصته العائلة لسكن أولادها من طلبة الأزهر، الذين حولوه إلى منتدى لهم، يوم كانوا قادة الحركة الوطنية والشارع السياسي في القاهرة، ثم مضى الزمان أيضا أصبح البيت وامتد به الزمن ليصبح منتدى لعدد من أعظم الفنانين الذين أنجبتهم مصر "وقد تعجب إذا علمت أن في هذا المكان، كان الشيخ درويش الحريري، والشيخ محمود صبح، والشيخ زكريا أحمد يلحنون أعمالهم الخالدة.. هنا كانوا يعملون، ومنه خرجت أرق الألحان وأكثرها عذوبة، وطربا، ولن نبالغ إذا قلنا أنه من هذا المكان خرجت ثلاث مدارس موسيقية من أهم المدارس العربية في فن الغناء".

هجمة مرتدة
هل سعى ساويرس لامتلاك هذا التاريخ كله؟
بعد أن زاد اللغط وكثرت الأسئلة، خرجت ابنته نوارة لتحسم الجدل الدائر، قالت إن البيت الذي إشتراه ساويرس لم يكن بيت حوش قدم، لكنه منزل آخر كان لزوجته الأخيرة "أم زينب" في ضاحية المقطم، واستقر فيه أواخر أيامه وعرضته على "أوليكس" لاحتياج مادي، ليس لنا أن نتدخل فيه بالطبع. لكن قبل أن نفرح قالت إن بيت حوش قدم الذي شهد هذا التاريخ كله هدم في زلزال 92 الشهير، وأن والدها سكن بعدها في منزل آخر حصل عليه بعد أن كتب محمود السعدني أن "شاعر الشعب نايم في الشارع لأن بيته راح في الزلزال"، فحصل نجم على شقة في "مساكن الزلزال".

أما بقايا حوش قدم فشهدت فشل الدولة نفسها في تحويله إلى متحف، بدأ المشروع فعلا ووضعت بعض المعدات والأشياء، ثم توقف المشروع ككل شيء، لذا لم تجد نوارة أي حرج في مشروع ساويرس بل قالت إن الرجل "يشكر" لأنه سيخلد اسم والدها في بيته بدلا من أن يذهب لآخرين لا يعرفون من هو كما حدث مع "شقة الزلزال".

إذا المنزل الذي آلت ملكيته لساويرس ليس منزل حوش قدم الشهير، ولا منزل الزلزال الذي لا يقل أهمية، لكن هل يعني هذا أن المنزل الأخير مستباح لأنه بلا تاريخ؟ على أي حال لا يمكن –حتى الآن على الأقل- أن نلوم رجل الأعمال على مشروعه، ولن نزايد على أسرة نجم بخاصة، ونحن نعلم أن انتظار التدخل الرسمي لن يأتي بأي نتيجة، ومتحف الروائي نجيب محفوظ مجهول المصير خير عبرة ودليل، وفي الوقت نفسه لا يمكن أن نلوم من إستفزه الأمر خاصة عندما يتعلق الموضوع بشاعر بحجم أحمد فؤاد نجم وبتاريخه النضالي المعروف، بالتحديد ضد ما يحدث باسمه الآن. مسألة مربكة لكن هذا ما حدث، تاريخ الشيوعي –أو بعضاً منه- في قبضة الرأسمالي. هذه هي النتيجة النهائية التي تلخص أيضا تلك المرحلة الغرائبية من عمر مصر.

هل زادت المسألة عن الحد؟ وهل كانت تستحق هذا الصخب كله؟ ربما، لكن اللافت فيها هو من إعتبرها هزيمة جديدة لليسار المصري، إنسحاقاً أمام الرأسمالية الجشعة التي تنجح دائما في الحصار والحصاد، من دون أن يسأل السائل نفسه أين هو أصلا ذلك اليسار الذي يتحدث عنه؟! نوارة كانت صادقة عندما قالت إنها لن تدفع فاتورة الفشل "معضلات اليسار وأزماتهم لا أنا ولا أم زينب مسؤولين نحلها" والمنزل محل الخلاف "ملك الست اللي كانوا عايزينها تجوع عشان يكافحوا الرأسمالية من بلاد الفرنجة".. هل كان اليسار يستطيع أن يتكفل بمتحف نجم وبزوجته؟ كان نفع نفسه يا رفيق.